دولة من كلام!

TT

أحدث تصريح للسيد بنيامين نتنياهو، يتضمن قبولا من جانبه بدولة فلسطينية مترابطة.. وزيادة في التأكيد وصف الدولة التي يوافق عليها بأنها لن تكون مثل الجبن السويسري الذي فيه من الثقوب أكثر مما فيه من الجبن.

وكان يمكن لهذا التصريح أن يحدث زلزالا سياسيا «إيجابيا» لو أنه جاء في وقت آخر.. وضمن مساقات أخرى.

الوقت الآخر هو غير الوقت الذي يقود فيه نتنياهو شخصيا عملية تشريع لثلاث بؤر استيطانية في الضفة الغربية، وتتضاعف فيه إنذارات هدم المنازل الفلسطينية في القدس، ويعلن رئيس الكنيست روبائين يفلن بلهجة حاسمة أنه «لن تكون هنالك أي مفاوضات حول القدس». ولقد عودنا السيد نتنياهو على أن قليلا من الكلام الإيجابي يمكن أن يغطي كثيرا من الأعمال التدميرية على الأرض، ذلك أن المنابر المحلية والعالمية التي يخاطبها رئيس الوزراء الإسرائيلي تتخذ من تصريحاته مادة للاحتفاء بالمرونة المستجدة للزعيم المتشدد، بينما تغيب عن المشهد كل الإجراءات العملية على الأرض التي تجعل من السلام، ولو بحدود العدالة الدنيا، ضربا من ضروب المستحيل. ولو أن الفلسطينيين والعرب، بحكم الحاجة ليس إلا، اعتنقوا مبدأ «لاحق العيار»، واعتبروا تصريحات نتنياهو بمثابة انقلاب إيجابي، وأرسلوا ما يكفي وزيادة من إشارات التشجيع والاستعداد للبناء على ما صدر عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، فهل نتصور، ولو في أكثر شطحات الخيال مبالغة، أن رئيس وزراء إسرائيل سيمنح الفلسطينيين دولة أفضل من الجبن السويسري؟!

هنا لا يصح الاستنتاج، فالسيد نتنياهو وغيره من صناع القرارات الرسمية في إسرائيل، رسموا على نحو مسبق خريطة الدولة الفلسطينية كما يرونها، أو كما هم مستعدون للتعايش معها.

لو نظرنا إلى الخريطة، التي ترسم حدود ومساحة الضفة الغربية التي هي أرض الدولة، لوجدناها وفق التصميم الإسرائيلي كيانا يبدو الجبن السويسري أفضل منه مرات ومرات. ففي قلب هذه الخريطة تقع القدس الكبرى التي صممها الإسرائيليون منذ يونيو (حزيران) 1967، أضحت على مدى ما يقرب من نصف قرن وعبر إجراءات فعالة الامتداد الجغرافي والبشري الإسرائيلي في الجسم الفلسطيني. وبوسع من يناقش صاحب نظرية «الجبن السويسري» أن يقول كيف تولد دولة فلسطينية مترابطة والقدس الكبرى هي التجسيد الماثل على الأرض، بينما قدس الرابع من حزيران 1967، أضحت مجرد جيب صغير أو جزيرة في محيط التوسع الإسرائيلي والاستيطان المستمر؟!

وغير القدس، ماذا بشأن التجمعات الاستيطانية التي يمكن أن تقبل بها إسرائيل شمالا ووسطا وجنوبا، فهل بعد فرض هذه التجمعات مع ما تبقى من مستوطنات متناثرة يجري تشريعها وتثبيتها، سيظل للدولة الفلسطينية أي مقومات كيانية تتمتع بالحد الأدنى من الحيوية والترابط الجغرافي؟!

وغير تجمع المستوطنات، هنالك الجدار، وما قضم من الأرض بالغة الحيوية في أمر الترابط الجغرافي والسكاني. والجميع صار على علم أن الجدار الذي ولد كإجراء أمني صار بمثابة حد جغرافي وسياسي مقترح للتسوية مع الفلسطينيين. وغير الجدار، هنالك المناطق الأمنية، وأكثرها سطوعا الموقف الإسرائيلي من منطقة الغور التي تشكل الاحتياطي الأهم للأراضي الزراعية الفلسطينية. إن موقف إسرائيل من هذه الأراضي يتراوح بين محاولة الاستيلاء الكامل عليها تحت ذريعة الأمن، ودرء الخطر القادم من إيران! أو أن تكون هذه الأرض مجالا أمنيا يخضع لترتيبات استثنائية تجعل من سيطرة الفلسطينيين عليها شبيهة بسيطرتهم على المناطق «C»، أو في أفضل الأحوال مناطق «B»، حيث السيادة الأمنية المطلقة لإسرائيل. وهذه الحدود الصارمة للدولة الفلسطينية التي لا يمانع نتنياهو من قيامها، لا بد أن تلحقها شروط موضوعية إضافية، يتصل بعضها بالترتيبات الأمنية الاحترازية، والبعض الآخر بالمصادر الطبيعية التي لن تسمح إسرائيل بأي قدر من السيطرة الفلسطينية عليها. وإذا ما رسمت خريطة الدولة وفق شروط نتنياهو وتمت محاولة تطبيقها على الأرض، فبالإمكان أن تكون مترابطة بالجسور والأنفاق وأذونات المرور، إلا أنها في واقع الأمر ستكون فعلا مختلفة عن «الجبنة السويسرية»، ولكن على صورة أسوأ.. ستكون إذا ما نفذت أغرب وأعجب دولة نشأت في التاريخ القديم والحديث، دولة ربما يمنح الفلسطينيون الحق في تسميتها، والتمتع بشكلياتها من دون أن يفارق كل مواطن فيها الشعور بأنه يعيش تحت سقف منخفض جدا من الخطر، ونحو مستقبل ملبد بالغيوم، مما يجعل الانفجار محتملا بين وقت وآخر!