«الحكم المدني» في مجتمعات تبتعد عن المدنية

TT

«في تلك اللحظة عندما سوّر شخص أرضا ادعاها لنفسه، ووجد حوله أناسا سذجا صدقوه، بات ذلك الشخص المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني»

(جان جاك روسو)

عندما هبت رياح الشتاء مبشرة بما لقبه بعض العالم «الربيع العربي»، ارتفعت أصوات في تونس ومصر وليبيا واليمن.. وكذلك في البحرين وسوريا تدعي أن هدفها «الحكم المدني».

القصد كما فهمه كثيرون هو الاستعاضة عن الأنظمة العائلية التوريثية الفاسدة، المستندة إلى دعم الأجهزة الأمنية وعضلات الجيش، والتي تزعم أنها تحكم بشرعية «الثورية» و«العروبة» و«الحكم الجمهوري»... ببديل «الحكم المدني» أو «النظام المدني».

يومذاك، في مهب فورة العواطف والفرحة الغامرة بسقوط «حاجز الخوف» بعد عقود ثقيلة من التدجين والإذلال، ما كان هناك الوقت الكافي عند المواطنين للتساؤل عن طبيعة البديل الموعود. كان الكل سعيدا بأنه اكتشف أنه له حناجر تهتف، وإرادة تتحدى السلطة، وحرية منعشة مستعادة بعد طول استلاب.

إلا أن فورة العواطف، بطبيعة الحال، لم تطُل كثيرا. فبعد سقوط الحكمين التونسي والمصري بسرعة نتيجة حسم الجيش في البلدين موقفه، عالج العقيد معمر القذافي انتفاضة الليبيين بأسلوب أرعن.. غافلا عن أن عزلته ونفط بلاده أكثر من كافيين لتبرير التدخل العسكري الأجنبي لإطاحته. وبالغ الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح في مناورته لتأجيل السقوط، فكاد يفقد حياته في هجوم المسجد الرئاسي قبل أن تتضافر الجهود الإقليمية والدولية لتأمين انتقال مرحلي للسلطة، من دون حل حقيقي لأزمة كيان وضعته رئاسة صالح المتطاولة بالتفتت... وهو خطر ما زال جاثما على ربوع اليمن الذي كان «سعيدا» في يوم من الأيام!

ومن ثَم، مع استمرار المأزق البحريني بمواكبة «الحالة الإيرانية» المتمادية في توسعها عبر المشرق العربي، من اليمن جنوبا إلى بلاد الشام والعراق شمالا، بل حتى المغرب العربي غربا، تدخل سوريا منذ أكثر من 12 شهرا (بمباركة إسرائيلية - أميركية) مرحلة الحرب الأهلية المفتوحة.

عبارة «الحكم المدني» بالنسبة للبعض كانت توحي بأنه البديل لحكم الأجهزة الأمنية كحال تونس، وحكم الجيش كحال مصر – حيث تولى العسكر السلطة الفعلية منذ 1952 واعتمدت المحاكم العسكرية حتى في محاكمة المدنيين – وحكم الأجهزة الأمنية والجيش والعصبية الفئوية (القبلية) معا كحال اليمن.

في حالة البحرين طرحت المعارضة – غير المنزهة ببعض فصائلها عن الطائفية والولاء الإقليمي – شعار «الحكم المدني» للتخلص من نمط «الحكم الأبوي» التقليدي الذي أبطأ في التنبه إلى عنصر الاستعجال في «المشروع الإيراني». أما في سوريا، فقد تضافرت كل العوامل المشار إليها سابقا... أي الجيش والأمن والعصبية الفئوية (الطائفية هذه المرة) والعائلية التي مارست التوريث فعلا، مضافا إليها «المشروع الإيراني».

معلوم أن إيران – الملالي «دولة دينية» يحكمها فعليا «الولي الفقيه» بدعم «الباسدران» (الحرس الثوري) و«الباسيج» (الميليشيا الشعبية). وهذا يعني أننا لا نتكلم عن أي صورة من صور «الحكم المدني». في حين أن إسرائيل، القطب الإقليمي الثاني في منطقة الشرق الأوسط، «دولة يهودية» لم تطمئن إلا إلى انتخاب قيادات تقلدت مناصب «عسكرية» في الجيش – الهاغاناه سابقا – أو «ميليشياوية» في الميليشيات الحزبية المتعددة إبان مرحلة التأسيس وما بعدها كـ«الإرغون» و«شتيرن» وغيرهما. وحتى بنيامين نتنياهو بدأ صعوده السياسي لأنه شقيق «يوني» الضابط الشاب الذي قتل في عملية عنتيبي عام 1976، وبالتالي، فنحن هنا أيضا مع حكم بعيد جدا عن مفهوم «الحكم المدني» الحقيقي.

وهنا نصل إلى القوى التي استفادت حتى الآن من «الربيع العربي»...

في تونس ومصر انتصرت القوى الإسلامية – بصرف النظر عن نسبة تشددها أو اعتدالها، ونسبة أصواتها – في أول انتخابات حرة أجريت بعد التغيير في البلدين.

وفي ليبيا بدا جليا من أول خطاب بائس ألقاه السيد مصطفى عبد الجليل، رئيس المجلس الانتقالي، في بنغازي خلال احتفال انتصار الثورة الليبية، أن التيار الإسلامي المتشدد بات قوة يحسب حسابها في هرم السلطة.

وفي سوريا، يظهر أن النظام يدفع عبر قمعه الدموي وخطابه السياسي المكابر الأمور، من حيث يدري ولا يدري، نحو منح الإسلاميين المتشددين «شرف» أن يكونوا القوة الوحيدة القادرة شعبيا وميدانيا على إطاحته.

لقد هربت بعض القيادات الإسلامية الطامحة إلى السلطة في دول «الربيع العربي»، عمدا، إلى اعتماد مصطلح «الحكم المدني» لأنه في المقام الأول مصطلح مناسب... لا يشير من قريب أو بعيد إلى العلمانية. وهذه القيادات مرتاحة جدا لغموض هذا المصطلح وضبابيته، وهذا مع إدراكها أنها تتحرك في مجتمعات تبتعد أكثر فأكثر عن احترام روح المواطنة والمؤسسات المدنية. وفي المقام الثاني، يكسبها بعض الصدقية في واشنطن... الشغوفة بالشعارات الكبيرة التي لا تعني شيئا على الأرض.

لقد عشنا مع «عراق ما بعد صدام حسين» أول نموذج إقليمي ساهمت في إنضاج ظروف قيامه إيران والولايات المتحدة – عبر اللوبي الإسرائيلي في «البنتاغون» – والنتيجة التي نرى أبعد ما تكون عن حلم «الحكم المدني». والشيء نفسه تقريبا يصدق على لبنان؛ حيث «تتعايش» طهران مع واشنطن. فالطائفية المتوحشة حاضرة، والسيادة الحقيقية مغيبة، والتفاهم الداخلي مفقود كي لا نقول معدوم، ووحدة البلاد المهددة جديا... رهين للحسابات الإقليمية التي أضحت كلها تقريبا خارج إرادة العراقيين واللبنانيين.

هذا «سيناريو» غير مطمئن إطلاقا لسوريا؛ حيث توحي الأمور بوجود نية عند القوى الدولية الفاعلة لدفعها دفعا باتجاه «الدولة الفاشلة» وصولا إلى التقسيم الفعلي.. وهذا طبعا ما لم تقرر كل من إسرائيل وإيران كسب تركيا أيضا إلى تفاهمهما الاستراتيجي الضمني. وفي هذا المجال ينبغي التوقف مطولا أمام المواقف العلنية اللافتة من قيادات أمنية إسرائيلية – تكررت خلال الأسبوعين الأخيرين –تشكك في جدية التهديد النووي الإيراني لإسرائيل. وهذا مسعى قد يكون القصد منه سحب أي مبرر أميركي للتصعيد ضد طهران. واستطرادا، التمهيد للتعايش الإيجابي مع إيران «شريكة» إقليمية مقبولة في مواجهة «السنية الأصولية» المستقوية بالنزعة الجهادية.

أيضا هذا «السيناريو» مقلق جدا في موضوع مصر، حيث يجرف انفلات الشارع العقول المسؤولة خارج حلبة التقرير، تاركا اللعبة السياسة محصورة بين «العسكر» المرفوض شعبيا و«الإسلام السياسي» القاصر عن استيعاب تبعات المحافظة على الوحدة الوطنية ودولة المؤسسات والالتزامات الدولية. وكذلك مقلق في موضوع اليمن، حيث من يشك اليوم جديا بإمكانية المحافظة على أي شكل من أشكال المجتمع المدني في البلاد.. الممزقة الأوصال والمشتتة الولاءات والهزيلة القيادة.

ذات يوم قال الرئيس الأميركي باراك أوباما «لسنا في صدد رعاية حرب أهلية».

أغلب الظن أنه لم يكن يقصد بكلامه السياسات المشبوهة لإدارته في المنطقة العربية، وبالذات في سوريا.