دمشق المنقلبة وبيروت المحتضنة

TT

لم يجد شكري القوتلي رمز سوريا المستقلة، الذي انقلب عهده بفعل حركة قادها الزعيم حسني الزعيم، ملاذا حنونا عليه مثل بيروت التي شاءت الأقدار أن تفيض روحه فيها يوم 30 يونيو (حزيران) 1967 عن 76 سنة. وكانت الغصة الناشئة عن هزيمة صديقه وحليفه جمال عبد الناصر سببا مضافا إلى الوضع الصحي الذي يعيشه. كما أن رمز وصول البعث إلى الحكم في سوريا ميشيل عفلق لم يجد الملاذ الحنون عليه مثل بيروت التي أمنته من إخافة الرئيس حافظ الأسد له. وكانت بيروت غير المتسلط عليها الواحة لأي سياسي سوري يرى فيها الملاذ الآمن له أو لأفراد عائلته. كما أن هذه العاصمة الصغيرة حجما الكبرى من حيث الدور المتفوقة في كل ما يخص الطبابة والدراسة والنشر، كانت تلبي ما يرنو إليه أصحاب تجربة سياسية جار عليهم الزمن فتساقطوا أو أسقطوا بفعل الانقلابات العسكرية المتلاحقة، من نشر مذكرات لهم يهدفون منها إلى إنصاف تجربتهم على نحو ما حصل بالنسبة إلى رئيس الحكومة السورية خالد العظم الذي سقط مضرجا باتهامات وجهها إليه الزعيم حسني الزعيم الذي استقالوه كما استقالهم شكري القوتلي أول رئيس للدولة السورية المستقلة مدشنا بإقالة الاثنين بداية حقبة الانقلابات العسكرية السهلة الحدوث، وكان أكثرها سهولة ذلك الانقلاب على دولة الوحدة السورية - المصرية والتسبب لزعامة جمال عبد الناصر بصدمة اكتملت فصولها بصدمة هزيمة الخامس من يونيو 1967.

وعلى نحو ما رواه خالد العظم في مذكراته، التي لولا المنارة الثقافية بيروت لما كان لهذه المذكرات أن تبصر النور، فإن الذي حصل له وللرئيس شكري القوتلي بانقلاب عسكري قاده الزعيم حسني الزعيم، كان بفعل فاعل أجنبي استغل الظروف الداخلية المرتبكة والتي تشبه في بعض جوانبها ما يحصل منذ سنتين في العراق والسودان ولبنان وفلسطين والأردن وبدأ يشق طريقه في سوريا.

ويروي خالد العظم الوقائع التي سبقت الانقلاب العسكري الأول في سوريا يوم الأربعاء 30 مارس (آذار) 1949، بصيغة الاتهام دفاعا عن الذات السياسية. وفي هذا الصدد يتهم حسني الزعيم بأنه «رجل أحمق متهور»، ثم يضيف «إن الحركة الطائشة التي قام بها هي لحماية نفسه من العزلة والإحالة إلى المحاكمة بتهمة الاشتراك في صفقات مريبة وخاسرة تعاقدت عليها مصلحة التموين في الجيش مع بعض الملتزمين الذين قدموا بضاعة فاسدة وقبضوا ثمنها مضاعفا».

أما روايته عن اكتشاف أمر الصفقات فيوجزها بالقول إنه دعا رئيس الجمهورية شكري القوتلي إلى حضور «تجربة الأسلحة والذخائر التي اشتريناها حديثا»، وتبين أن المدافع غير صالحة والذخيرة فاسدة وأن الرئيس القوتلي توجه إلى مستودعات الجيش وكانت السيارة التي تقل الزعيم تسير وراء سيارته. ويضيف: «دخلنا أحد العنابر وبدأ الرئيس يتجول بين أكياس وصناديق يسأل عن محتويات كل منها، وكانت الفاصوليا اليابسة تتكدس إلى جانب قمر الدين والزيت. وكان الرئيس القوتلي يتظاهر بالارتياح كلما شاهدنا نوعا من الأنواع، حتى وصلنا إلى مجموعة من التنكات المعبأة سمنا فطلب فتح إحداها ففتحت وإذ بنا نشاهد لون السمن أقرب إلى السواد، فأظهرنا استغرابنا. ونظرت إلى حسني الزعيم فرأيته ممتقع اللون بادي الاضطراب. وطلب الرئيس من أمين المستودع أن يحضر (وابور كاز) ومقلاة وبيضا، ففعل ووضعت قطعة من السمن ضمن المقلاة فلما حميت تصاعدت منها رائحة كريهة حتى أننا اضطررنا إلى سد أنوفنا بمحارمنا. وكان حسني الزعيم يزداد اضطرابا وامتعاضا. وطلب الرئيس أن تحمل تنكة السمن إلى سيارته ليأخذها معه لفحصها، ثم برحنا المكان..».

بقية الواقعة أن حسني الزعيم إزاء هذا الذي حدث وانكشاف أمر الفساد سلاحا وذخيرة وسمنا، وجد نفسه موضع مساءلات في مجلس النواب، فاستبق ما قد يحدث من إعفاء له من منصبه وكذلك بالنسبة إلى ضباط آخرين فأعد مذكرة تحمل تواقيع كبار الضباط تطلب من الرئيس القوتلي تحقيق مطالبها، وأبرز هذه المطالب عدم بحث الأمور العسكرية في جلسات برلمانية علنية، وخصوصا بعد اتهام بـ«الخيانة والتآمر على سلامة الدولة» وجهه النائب فيصل العسلي إلى قائد الجيش حسني الزعيم.

حول الذي حدث بعد الانقلاب العسكري الأول في سوريا وما تبعه من انقلابات لاحقة يروي لنا المعايشون لنصف قرن من الأحوال السياسية العربية الكثير من الوقائع التي تعكس حقيقة أساسية، وهي أن سوريا محكومة بعقلية أمنية منذ إسقاط الجمهورية الأولى وتشتيت رموز العمل السياسي، وأنه إذا كتب للانتفاضة الراهنة المزيد من الصمود، فإن الجمهورية الثانية ستنقل سوريا من نظام العقلية الأمنية إلى النظام التعددي والذي يمارس الجيش فيه دوره كمؤسسة عسكرية واجبها حماية الحدود وليس مطاردة الناس في الشوارع لأنهم ينادون في مظاهرات بمطالب وقفت العقلية الأمنية دون تنفيذها.

ومن المؤكد في حال حدوث ولادة الجمهورية الثانية في سوريا أن تصبح حال العلاقة السورية - اللبنانية على درجة من الود المتبادل بين شعبين، فلا يعود لبنان إلى الاستهداف الذي هو عليه الآن وحتى إشعار آخر من التطلعات السورية، وإنما يكون المتآلف رسميا وشعبيا مع الدولة الجارة التي قررت إسقاط الورقة الأكثر حساسية من كتاب العلاقات، وهي الورقة التي طالما أصرت العقلية الأمنية على التمسك بها، وهي الاستقواء بلبنان الدولة على لبنان الشعب.

وفي هذه الحال تستقيم الأمور الملتبسة ويرى الرئيس بشار الأسد أن لبنان الذي احتضن ومن دون حساسيات الزعيم السني شكري بن محمود بن عبد الغني القوتلي، واحتضن ومن دون حساسيات أيضا كبير «البعث» ميشيل عفلق، وبينهما العشرات من القياديين والسياسيين والعسكريين السوريين المتباعدين أو المطاردين من حكومات أمنية تعاقبت على سوريا، يحتضن بترحاب آخر الرؤساء المحكومين بطقوس أمنية، أي الرئيس بشار بن حافظ بن علي بن سليمان الأسد. وأي خيار غير هذا الذي نشير إليه سيبقى رهانا على المجهول.. الذي لا نريده مأساويا.