هل يمكن أن يستنير العرب في المدى المنظور؟

TT

كانوا قد طرحوا في أواخر القرن الثامن عشر على الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط السؤال التالي: هل نحن في عصر مستنير يا سيادة البروفسور؟ فأجاب: لا، ولكننا في عصر سائر نحو الاستنارة. ولو طرح على أحدهم نفس السؤال: هل نحن العرب مستنيرون؟ لأجبت: لا، لسنا مستنيرين، ولسنا سائرين نحو الاستنارة أصلا! لاحظ الفرق الشاسع بين لحظة الألمان ولحظة العرب. فبينهما يفصل قرنان ونصف قرن من الزمان، ومع ذلك فالألمان كانوا آنذاك أكثر قربا إلى التحضر والاستنارة والدولة المدنية من عرب اليوم! من يصدق ذلك؟

أليست كارثة أو مأساة أن يكون الشعب الألماني سائرا نحو التنوير والانفصال عن الأصولية المسيحية والأفكار الطائفية عام 1780، وليس العرب عام 2012؟ بل إننا سائرون في الاتجاه المعاكس حاليا. ولكن مع ذلك أصر على القول إن المستقبل أمامنا. وأعتقد جازما أن انهيار الأنظمة المتكلسة المتحنطة يشكل خطوة أولى على الطريق الصحيح. بهذا المعنى نشكر الربيع العربي لأنه حرك المستنقع الراكد، المستنقع الآسن. صحيح أنه لم يتمخض عما نرجوه، ولكنه دشن صيرورة تاريخية لن تتوقف تفاعلاتها الخلاقة عما قريب..

كان كانط يتخذ أحيانا بعض الاحتياطات بغية تمرير أفكاره الجريئة أكثر من اللزوم والسابقة لعصره. من المعلوم أنه مدح ملك ألمانيا (بروسيا آنذاك) فريدريك الثاني باعتبار أنه عاهل مستنير. صحيح أنه مستبد، ولكنه مستبد مستنير يسمح للعلماء والفلاسفة بحرية البحث والتفكير والنشر. أليس المستبد المستنير أفضل من المستبد الظلامي على طريقة لويس الخامس عشر ملك فرنسا؟

كان فريدريك الكبير هذا يستقبل في بلاطه كل مثقفي فرنسا الهاربين من بطش مليكهم الأصولي، بمن في ذلك فولتير. وكان يفتح لهم أبواب أكاديمية برلين لكي يبحثوا ويتناقشوا في شتى شؤون العلم والفكر والدين، بكل حرية. وكان يصرف عليهم الرواتب لكي يتفرغوا كليا للبحث وتنوير الشعوب الأوروبية، (لا أرى له شبيها في تاريخنا إلا المأمون العظيم)، بل كان هو شخصيا يشارك في المناقشات التي تدور حول العقائد الدينية المسيحية، ولكنه كان يتخذ بعض الاحتياطات ومظاهر التقية خوفا من رد فعل العوام. حتى هو، الملك الجبار، كان يخاف من الشعب! فما بالك بالمثقفين؟

فالأصوليون كانوا مسيطرين على الجماهير الأمية في معظمها من خلال المواعظ والصلوات والقداسات، تماما كما هي عليه حالة العرب والمسلمين اليوم. وكان رجال الدين في أي لحظة يستطيعون تهييج العامة على العاهل وتهديد حكمه. وبالتالي فلا بد من إرضائهم وتقديم التنازلات والترضيات والهبات لهم. في الواقع فإن كانط لم يكن منافقا إذ مدح فريدريك الكبير، وإنما كان صادقا. كان يعتبر وجود المستبد المستنير في وقته أفضل الممكن، وإلا فديمقراطية الأصوليين والكهنة المسيحيين! فلو نظمت انتخابات حرة آنذاك لاكتسحوها اكتساحا لأن الشعب لم يكن قد استنار بعد، وإنما النخبة المثقفة فقط.

ولهذا مدحه، وبخاصة أنه يحميه من طغاة مُعمّمين أو مطربشين لا يقلون بأسا وهولا من رجال الدين! فهؤلاء كانوا يشتبهون بكانط ويعرفون أنه يحفر تحتهم منتقدا فهمهم الخاطئ للدين، وتكالبهم على الوجاهات والأموال، ناهيك عن تخديرهم للشعب بالمعجزات والخرافات.

كان كانط تقيا نقيا وأخلاقيا من الدرجة الأولى. كان يعرف كيف يفرز جوهر الدين عن قشوره. ولم يتعرض للأذى إلا بعد وفاة المستبد المستنير وصعود ابن أخيه غليوم الثاني إلى سدة الملك. فهذا الأخير وقع، لسوء الحظ، تحت تأثير أحد الأصوليين المسيحيين الأكثر تزمتا وظلامية. وكان حاقدا جدا على فريدريك الكبير وعهده الليبرالي التنويري المتسامح. ولذا دفع بالملك الجديد إلى التضييق على الحريات، وبالأخص حرية التفكير في الشؤون الدينية والعقائدية. وأخذ يهيجه على كانط ويسوّد صفحته لديه. عندئذ تلقى كبير فلاسفة ألمانيا رسالة تهديد حقيقية، وخاف جديا لأول مرة في حياته. عندئذ احمرت عليه الأعين تماما. ولهذا السبب قرر إيقاف أبحاثه عن الدين فورا.

لحسن الحظ، لم يدم عهد هذا الملك الرجعي (أو المستبد غير المستنير) طويلا، فعاد الفيلسوف إلى إكمال كتابه الشهير: «الدين ضمن حدود العقل فقط». وعلى هذا النحو صالح بين المسيحية والحداثة، أو بين الدين من جهة والعقل والتنوير من جهة أخرى. وعلى هذا النحو استطاع أن يهزم التأويل الطائفي الظلامي للدين المسيحي، أي التأويل الذي كان موروثا راسخا، والذي خلع المشروعية «الإلهية» على الحروب الطائفية والمذابح والمجازر ودمر ألمانيا. كانط لم يكن ملحدا على الإطلاق، وإنما كان مؤمنا بوجود فهم آخر أكثر استنارة وعقلانية للدين. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل.

ومن دون هذا الفهم الجديد للدين، أي الفهم العقلاني المستنير اللاطائفي، لم يكن ممكنا تشكيل الوحدة الوطنية الألمانية التي مزقتها الصراعات الهائجة بين المذهبين الكبيرين للبلاد؛ أي المذهب الكاثوليكي البابوي والمذهب البروتستانتي اللوثري. وبالفعل لم تتحقق هذه الوحدة إلا على يد بسمارك عام 1871، أي بعد موت كانط بسبعين سنة تقريبا، وموت هيغل بأربعين سنة بالضبط. لم تتحقق إلا بعد أن كان التنوير قد انتصر في العقليات وبرامج التعليم، وقضى على العقلية القديمة والعصبيات الطائفية الضيقة، وذلك لصالح عصبية واحدة هي: العصبية الوطنية الألمانية التي تتسع أحضانها للجميع.

ماذا أستنتج من كل ذلك؟ أستنتج أن إصلاح الفكر سبق إصلاح السياسة وليس العكس. بمعنى أنه لولا كانط وفيخته وهيغل وسواهم، لما كان بسمارك. لولا الفكر المستنير لما كانت السياسة المستنيرة. نقطة على السطر.

أستغرب لماذا كل هذا الإهمال لدور الفكر المستنير في الربيع العربي! أليس غيابه محبطا للآمال؟ أليست محاكمة عادل إمام مقلقة؟ هل يمكن أن نشكل دولة مدنية حديثة بعقلية القرون الوسطى، أي دون التخلي عن الأفكار التكفيرية ومحاكم التفتيش التي تلاحق المثقفين والفنانين؟ أعتقد شخصيا أنه من دون تفكيك العصبيات الطائفية وتنوير العقول لا يمكن أن ينجح الربيع العربي الذي يشكل صرخة احتجاج حقيقية ومشروعة ضد أنظمة الاستبداد والفساد والطغيان. أقصد الأنظمة التي تقتل شعبها بمجرد أن يفتح فمه ويتنفس.

من دون استنارة فكرية لا يمكن تشكيل الوحدة الوطنية في أي بلد عربي أو إسلامي. وكانط أعطانا أكبر درس في هذا المجال عندما قال: لكي تغيروا المجتمع ينبغي أولا أن تغيروا العقليات السائدة فيه عن طريق التعليم والتثقيف والتهذيب. وبالتالي ينبغي أن نغير برامج التعليم القديمة التي تكرس الحزازات المذهبية والانقسامات الطائفية في نفوس الأطفال الصغار منذ المرحلة الابتدائية. كيف يمكن أن نشكل وحدة وطنية في مثل هذا الجو؟

ولذلك أدعو إلى ثورة فكرية تنويرية عربية تكون مكملة للربيع السياسي العربي، وتليق به وبتضحياته. السياسة من دون رادار فكري عمياء، والفكر من دون ترجمة سياسية على أرض الواقع شيء عقيم.

ء