مصر: ابتذال اللعبة الديمقراطية

TT

الحرية انعتاق. الديمقراطية قيد! نعم، الديمقراطية قيود. تقنين. تكييف وتعبئة للحرية في قنوات. مؤسسات. وإجراءات، للحد من فوضاها. هذه «القيود» والمؤسسات هي الأعمدة التي تقوم عليها الحياة السياسية، في مجتمع مزدهر.

نقل رومانسية الحرية وفوضاها إلى واقع قانوني. وقالب دستوري، يتطلب من الحياة السياسية أن تكون مسرحا لتفاعل قيم وأفكار متبادلة، عبر العملية (اللعبة) الديمقراطية، بحيث يمكن ترجمة هذه الأفكار والقيم إلى قرارات. وإجراءات، كتشكيل الحكومات. الإعلان عن انتخابات. سن دساتير. وقوانين...

في مصر الانتفاضة، حدث خلل منذ البداية. تم ابتذال اللعبة الديمقراطية. نتيجة للأخطاء المروعة في ترتيب الأولويات. وتحت ضغط الشارع الديني، استجاب المجلس العسكري الحاكم، فأجرى بنزاهة وحسن نية، أول انتخابات حرة في مصر الحديثة.

كان من المفروض أولا، سن دستور مصري دائم، تتمحور حوله الحياة السياسية التي باتت حرة. كان بالإمكان تشكيل لجنة حيادية من كبار رجال الفقه القانوني والقضائي (وما أكثرهم في مصر) تتولى صياغة دستور مدني وديمقراطي. مع استشارة ممثلين لمختلف القوى السياسية والدينية والشبابية، ليأتي الدستور متوازنا. وملبيا لتطلعات هذه القوى، نحو مصر حرة. مزدهرة.

وكان الوقت متسعا. لا عجلة. ليأخذ الدستور شهرا أو أكثر. فالمرحلة الانتقالية يجب أن تطول، ليتم السفر الشاق من نظام أوتوقراطي إلى حكم ديمقراطي، بسهولة. ليونة. جدية. ربما كان على مصر أن تنتظر عامين، يتم خلالهما تغيير مجرى الحياة السياسية. وترسيخ اللعبة الديمقراطية، على أساس الحوار السلمي والاعتراف المتبادل بين القوى المختلفة.

في تلك المرحلة، كان يجب منح القوى الشبابية والدينية الجديدة الفرصة الكافية للتدرب على ممارسة اللعبة الديمقراطية. وبناء أحزاب منفتحة، في تنظيمها الهيكلي. أفكارها. برامجها. كان من الممكن توسيع وإصلاح مؤسسات المجتمع المدني، من نقابات. ومنتديات. وجمعيات حقوق الإنسان. وتبادل الرأي حول حرية الحياة الثقافية والفكرية. ومن دون حكم على عادل إمام، لأنه كان في سخريته الرائعة من النظام السابق: شاهدا ما شافشي حاجة.

بدلا من ذلك كله، فالخلل في ترتيب الأولويات أدى بالقوى الدينية إلى استخدام الكتلة البشرية الهائلة المحمولة من مجاهل الريف وقاع المدن إلى صناديق الاقتراع، اعتمادا على تسييس إيمانها الديني العميق، من دون توعية وإنضاج لوعيها السياسي.

في الهرولة الفورية إلى صندوق الاقتراع، كانت النتيجة كارثة: برلمان ضعيف لا يمثل وجه مصر الإبداعي. برلمان يحتل ثلاثة أرباع مقاعده ممثلو قوى دينية، بفضل ما سموه: «غزوة صناديق» ناجحة، وكأنهم يخوضون حربا دينية يقتلون فيها كفارا. هذا التناقض بين البرلمان ووجه مصر الإبداعي سيجر حالة من عدم الاستقرار السياسي والثقافي في مصر.

كادت الكارثة تتوسع عندما انقلب الزهد الإخواني، إلى شهية جارفة، لتولي عملية صياغة الدستور، من خلال أغلبية نيابية مشكوك في سلامتها. ثم إلى دفع أكثر من مرشح إخواني لخوض الانتخابات الرئاسية.

ربما (مؤقتا)، تم تجاوز كارثة «غزوة الصناديق». لكن تم التعامل مع شهوة استيلاد دستور من الرحم الإخواني، وخطف المنصب الرئاسي، بارتكاب ابتذال آخر للعبة الديمقراطية. فقد استُغل التناقض بين أحكام المحاكم القضائية واللجان القانونية، لإعادة البرلمان الإخواني إلى رشده، ومنعه من التفرد بسن دستور كما يريد، فيما تم منع رجال العهد السابق (عمر سليمان. أحمد شفيق) من الترشح للرئاسة. ومنع معهما أيضا المرشح الإخواني خيرت الشاطر. والسلفي حازم صلاح أبو إسماعيل.

كان ابتذال العملية الديمقراطية مضحكا ومكشوفا: منع ترشيح شفيق استنادا إلى قانون العزل السياسي الذي أصدره برلمان الإخوان! لكن بعد 24 ساعة ثبتت اللجنة الانتخابية التي منعته صحة ترشيحه، فيما استمرت في منع عمر سليمان الذي يقال إنه لا يتمتع بعلاقة طيبة مع المشير طنطاوي، منذ أيام النظام السابق!

كان من العدل أن يقول ملايين الناخبين المصريين رأيهم في الاثنين. ليس كل رجال نظام مبارك فاسدين. الفريق أحمد شفيق قائد سابق للقوى الجوية. ووزير طيران مدني ناجح وكفء. عمر سليمان كان ضد التوريث. وضد الفساد.

حزنت حقا لمنع حازم صلاح أبو إسماعيل. كانت الحجة واهية: أمه أميركية! وكأنها ليست مصرية صميمة. كأنها مستوردة من تكساس أو كاليفورنيا. وكأنها لو كانت على قيد الحياة قادرة على منع ابنها من أن يصبح خليفة مصريا لخلافة إسلامية تمتد من بحر الصين إلى بحر المغرب. بهذه المناسبة، أتمنى أن يكف نظام الدولة العربية المستقلة عن اعتبار العرب «أجانب». مئات ألوف المصريين ولدوا لآباء عرب ومصريين. بل حزنت أيضا لمنع «الربّاع» خيرت الشاطر مرشح الرأسمالية الإخوانية. لم ينقذه عفو المجلس العسكري عنه. تم التعامل معه كمُدان في حكم قضائي صدر عليه في عهد النظام السابق الذي يشكو الجميع من قسوة أحكامه!

ما زلت في منطق الحديث عن ابتذال وتهميش اللعبة الديمقراطية. لو أن التيارات الشبابية لم تصب بـ«عمى» الأهداف، لكانت قادرة منذ اليوم الأول على التواصل مع المجلس العسكري الذي وفر لها الحماية. ولما وصلنا اليوم إلى مليونيات الإخوان عن «حماية الثورة» التي خطفوها من الشباب.

في ابتذال اللعبة الديمقراطية تم استغلال التناقض بين أحكام القضاء وأحكام اللجان القانونية. شارك الإخوان في عملية الابتذال. فنقص وزنهم في الشارع الانتخابي. برمج العسكر لعبة انتخابية رئاسية أكثر توازنا. وأقل صخبا وتوترا: عمرو موسى ضد عبد المنعم أبو الفتوح. موسى من قدماء المصريين. دبلوماسي لكل العصور. عاصر المتمرد توت عنخ آمون. صاهر أسرة ناصر. دخل كامب السادات. خرج من كامب مبارك، إلى كامب العرب. عمرو صالح للتعامل كرئيس ديمقراطي مساير للعسكر. ومجامل لبرلمان الإخوان.

أبو الفتوح مثل عمرو موسى متسامح مع الإخوان. خارج عليهم. خاطف لأصوات شبابهم. متفوق بمسافة على مرشحهم محمد مرسي بطل حزب «الحرية والعدالة» في كمال الأجسام والعضلات.

فجأة، تخلى الإخوان عن التمسك بسن الدستور. وأمسكوا بتلابيب الحكومة! يطالبون الآن بتسريح كمال الجنزوري. ربما يظنون أن تشكيل حكومة إخوانية، لا ضرورة لها في آخر المرحلة الانتقالية، يخدم شعبيتهم المنهارة. وكاف لترئيس مرشحهم الشيخ مرسي.

لو بدأ العسكر بالأولويات حسب الضرورات: دستور أولا. مرحلة انتقالية ثانيا. أحزاب ديمقراطية دينية وشبابية ثالثا. انتخابات تشريعية رابعا. انتخابات رئاسية خامسا. تشكيل حكومة سادسا... ربما لاستقر مجرى الحياة السياسية على ضفاف النيل.

غفر الله للمتنبي. فقد هجا مصر أم العرب والعروبة:

وكم ذا بمصر من مضحكات

لكنه ضحك كالبكا

طارد «سيف» الدولة المتنبي في سوريا. نعِم بالأمن والأمان في مصر. رغب في رئاسة بلدية ولو في عريش سيناء. قالوا له: أنت هكسوس. أمك أميركية.

غادر المتنبي المحروسة. خرج من بر الأمان. فقتل العراقيون شاعر العرب الأكبر في الصحراء. قبل أن يهجو المالكي في بغداد.