لا غنى عنها.. لكنها غائبة عن الأزمة السورية

TT

ظل الخبراء والحكماء يزعمون طوال عام أن الربيع العربي يبشر باقتراب حقبة جديدة في الشرق الأوسط لن تكون الولايات المتحدة فيها هي «الدولة التي لا غني عنها» كما وصفها بيل كلينتون يوما ما. مع ذلك، أثبتت الأزمة السورية أنهم مخطئون. والدليل على ذلك - حتى هذه اللحظة - يتمثل في إخفاق الأمم المتحدة ودول الجوار السوري حتى الآن في منع الدولة من الانزلاق نحو هاوية الحرب الأهلية في غياب القيادة الأميركية. مع ذلك، لم تحسم القضية بعد، لأن كل القوى والمنظمات الأخرى التي تطمح لملء الفراغ الذي خلفته واشنطن في دمشق حاولت وفشلت في ذلك.

فلنبدأ بتركيا، إحدى دول جوار سوريا وحليفتها السابقة، التي كانت الفائز الأكبر من ثورتي تونس ومصر والاضطرابات التي تشهدها البلدان الأخرى، بحسب البعض. أرسل رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، العام الماضي وزير خارجيته حاملا رسالة إلى بشار الأسد ينصحه فيها بالتوقف عن قتل المدنيين وعقد لقاءات مع المعارضة وإجراء إصلاحات ديمقراطية. قال الأسد إنه سيفعل، لكنه كان يكذب واستمر في القتل. ومنذ ذلك الحين، يكرر المناورة مع جامعة الدول العربية وروسيا ومبعوث الأمم المتحدة كوفي أنان. شعر أردوغان، الرجل المتقلب المزاج، بالغضب وسمح لقادة المعارضة ومنهم الجيش السوري الحر باللجوء إلى تركيا وتنظيم صفوفهم فيها. وأشار إلى دعمه إنشاء ممر للمساعدات الإنسانية أو منطقة لجوء في سوريا، أي منطقة تسيطر عليها قوى خارجية وتدافع عنها قوات مسلحة إن استدعى الأمر ذلك. مع ذلك، لم يتم إنشاء هذا الممر، والسبب واضح؛ وهو أن الجيش التركي لن يتخذ مثل هذه المبادرة العسكرية دون دعم فعّال من الولايات المتحدة إن لم يكن حلف شمال الأطلسي بأكمله.

لا يعني هذا عدم قدرة تركيا على الاضطلاع بذلك، فقد نجحت عام 1998 في إرهاب النظام السوري فقط بحشد قواتها على الحدود.

مع ذلك، كشفت هذه الأزمة عن نقطة ضعف تتعلق بطموحات أردوغان الإقليمية، حيث لا تستطيع تركيا، التي كانت يوما ما قوة استعمارية خلال الحكم العثماني، التدخل في شؤون أي دولة عربية دون أن تتعرض لخطر رد فعل انتقامي واسع النطاق. وتثير الحكومة ذات التوجه السني المعتدل الشكوك في نفوس المسيحيين والأكراد الذين يمثلون أقلية في سوريا ناهيك بنفوس العلويين.

لقد حالت التوترات الطائفية دون اتخاذ جامعة الدول العربية موقفا صارما، حيث تتشكك بعض الدول ذات الحكومات الشيعية، مثل العراق ولبنان، في دول سنية تتوق للتدخل مثل المملكة العربية السعودية وقطر. على الجانب الآخر، تعثرت محاولات بعض دول الخليج الفردية لتزويد المعارضة بالأسلحة.

أما بالنسبة لروسيا، فقد أخفقت في محاولتها تقديم نفسها طرفا مؤثرا في الشرق الأوسط من خلال الوساطة من أجل التوصل لاتفاق تسوية سورية. ويريد الكرملين إنقاذ الأسد، لكنه يرفض اتخاذ أي خطوات باتجاه التوصل إلى اتفاق يبقي على النظام. ويمكن لموسكو أن تمنع مجلس الأمن من فرض عقوبات صارمة أو إقرار تدخل عسكري، كذلك يمكنها تزويد الجيش السوري بالسلاح والوقود، لكن تبين خلال الأسابيع القليلة الماضية، أنها لا تستطيع أن تحول دون انزلاق سوريا إلى حرب أهلية.

ويبقى مبعوث الأمم المتحدة، كوفي أنان، الذي يبدو عازما على تكرار كل الأخطاء التي ارتكبتها الأمم المتحدة في البلقان خلال فترة توليه منصب الأمين العام لها في التسعينات. لقد أقنع مجلس الأمن بإرسال مراقبين غير مسلحين لمراقبة الالتزام بوقف إطلاق النار، وعندما لم يحدث وقف لإطلاق النار، كان جوابه على أكاذيب ووعود الأسد الجوفاء هو تجديد وساطته بدلا من التخلي عنها.

أصيب الدبلوماسيون الأوروبيون والعرب العاملون في الملف السوري بانهزامية وإحباط، حيث يهزون أكتافهم ويقولون إنه لا توجد حلول أو شيء يمكن القيام به لوقف القتال والتوصل إلى اتفاق دولي على اتخاذ إجراءات أكثر حسما وصرامة. إنهم يقولون ذلك، ثم يتكهنون بالوقت الذي ستتخلى فيه إدارة أوباما عن سلبيتها إذا كانت ستفعل في الأساس.

تستطيع الولايات المتحدة القيام بما هو أكثر من إقامة منطقة آمنة في سوريا والدفاع عنها، بمساعدة تركيا وحلف شمال الأطلسي. إذا دعمت تسليح الجيش السوري الحر، من المؤكد أنه سيحصل على المزيد من الأسلحة. ويعتقد كثير من المعارضين السوريين أن الإعلان عن مثل هذه المبادرات الأميركية سيقوض نظام الأسد من الداخل. ويحتاج هذا بطبيعة الحال إلى قرار من الرئيس أوباما. وللقيام بذلك، عليه أن ينحي جانبا فكرة الحصول على موافقة من مجلس الأمن على أي إجراء يريد اتخاذه. وسيتعين على أوباما إقامة تحالف مخصص لهذا الغرض مع تركيا والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي تحت قيادة الولايات المتحدة. وسيكون عليه أيضا إصدار تعليمات للدبلوماسيين الأميركيين بتكثيف عملهم مع حركات المعارضة السورية والطوائف المختلفة من أجل التوصل إلى توافق حول تصور لوضع البلاد بعد الأسد.

ويعني هذا ضرورة أن يتصرف أوباما وكأن الولايات المتحدة لا تزال كما رآها بيل كلينتون؛ دولة لا غنى عنها.

* خدمة «واشنطن بوست»