معركة النهضة والإعلام في تونس

TT

الحدث الأبرز الذي استأثر باهتمام التونسيين في الأيام الأخيرة هو اشتداد التوتر بين مجموعة من المعتصمين أمام مبنى التلفزة الوطنية التونسية، وأسرة مؤسسة التلفزة، وتحديدا فريق قسم الأخبار. وهو توتر تفاعلت معه مختلف مكونات المجتمع المدني بالوقوف في صف صحافيي قسم الأخبار الذين وجدوا دعما مخصوصا من قبل أغلبية المنتمين إلى المشهد الإعلامي التونسي.

وكي نفهم أسباب هذا التوتر الذي يحمل دلالات تتجاوز مجاله والقائمين به، من المهم التعرف إلى دواعي الاعتصام في حد ذاته، وأيضا الانتماء الآيديولوجي الغالب على المجموعة المعتصمة.

فحسب المعلن، وما تقوله الشعارات المرفوعة أمام مبنى التلفزة التونسية، فإن المعتصمين لهم مؤاخذات على مؤسسة التلفزة، وينتقدون قسم الأخبار بالوقوف ضد الحكومة وعدم إظهار جهودها والتركيز على كل ما يُظهر ضعف الحكومة مع تغليب حضور المعارضين لها.

أما الهوية الغالبة على المعتصمين فهي تتوزع بين من تمّ تصنيفهم كتابعين لحركة النهضة وآخرين تابعين للسلفية.

طبعا الاعتصام في حد ذاته لم يعد يمثل في تونس ما بعد الثورة حدثا أو خبرا خاصا. ولكن حسب تقديرنا الاعتصام المشار إليه لا يمكن إدراجه ضمن موجة الاعتصامات العادية الحاصلة. فنحن أمام معركة من نوع خاص يحاول فيها كل طرف إثبات ذاته مع ما يتخلل ذلك من دلالات مهمة على المستويين السياسي والحرياتي.

بالنسبة إلى موقف الصحافيين الذين يتعرضون إلى انتقادات وغضب من طرف المعتصمين، يبدو أنه موقف عازم على عدم العودة إلى الوراء والقطع مع عقود من الولاء المطلق للسلطة الحاكمة. وربما ما جعل من قرار القطع حاسما هو موجات التجريح التي عانت منها الأسرة الإعلامية التونسية الموسعة منذ تاريخ حصول الثورة وإلى اليوم على الرغم من انخفاض وتيرة التجريح وعمقه.

ومن الصعب القول إنه تجريح في غير محله، ذلك أن الإعلام كان المجال الأكثر دولنة وسيطرة وقمعا، مما جعل أغلب الوسائل الإعلامية في الدرجة الأولى في خدمة الحاكمين وذويهم لا المحكومين!

فالوعي بأدوار الإعلام العمومي الذي هو ملك الشعب أولا وأخيرا وفضاء الأطراف كافة، قد بدأ يتعمق ويتغلغل في عقلية الصحافيين وممارساتهم رافضين العودة إلى سالف عهد الولاء للسلطة الحاكمة. ومن ثمة، فإن الإعلام في تونس يعيش مخاض إعادة التشكل وصعوبات التطهر على نحو يُثبت فيه ذاته كما يجب أن يكون من خلال الالتزام بالمهنية والحياد والاقتراب من هموم المواطن التونسي بالأساس.

وفي الحقيقة، محاولة الإعلام التونسي إثبات جدارته كسلطة رابعة قد باتت أمرا ضروريا باعتبار أن تونس في مسارها الديمقراطي الراهن دخلت مرحلة من الممارسة السياسية من أهم خصائصها ما يسميه عالم الاجتماع الإيطالي باريتو دوران النخب. وليس من صالح إعلام يدعي أنه تعلم الدرس أن يضع سلطته تحت أي سلطة سياسية حاكمة؛ سواء اليوم أو غدا.

لذلك، فإن ظاهر الأمور يقول إن مخاض إثبات الذات في المشهد الإعلامي العمومي والخاص عموما قد جاء على حساب الحكومة المؤقتة، وتحديدا حركة النهضة صاحبة الأغلبية النسبية في المجلس الوطن التأسيسي وفي تشكيلة الحكومة، حيث بدا لها وكأن الإعلام في صف المعارضين ولا يهتم بما تبذله من جهد وما تقطعه من خطوات على الرغم من صعوبة الأوضاع، الشيء الذي يكرس صورة لها في غير صالحها. فهي أيضا كحكومة مؤقتة تمارس الحكم دون سابق تجربة وفي ظروف محفوفة بالصعوبات الاقتصادية، تسعى إلى إثبات ذاتها وقدرتها في تسيير شؤون البلاد ودواليب الدولة.

إنها معركة طويلة بين طرفين أو ربما أطراف تحاول إثبات الذات بطرق أحيانا مقبولة وأحيانا منبوذة. معركة طويلة النفس تتطلب الكثير من الموضوعية والقدرة على التمييز في طقس يتميز بغيوم كثيفة.