السعودية ومصر.. المصالح في زمن «الثورة»

TT

تمر العلاقات السعودية - المصرية حاليا بمرحلة اختبار، ربما هي الأولى من نوعها، منذ رحيل الرئيس المصري السابق حسني مبارك عن السلطة، بعد «ثورة 25 يناير».

حادثة الاعتداء الأخيرة على السفارة السعودية ليست الأولى، فقد كان هناك جو من التوتر والمضايقات خلال العام الماضي، ولكن التخريب الذي تعرضت له السفارة وقنصلياتها، والإساءة للقيادة السعودية، وحملة التجريح والشتائم التي صاحبت الحادثة في بعض قنوات الإعلام المصري، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي تجاوزت كثيراً، بحيث بات السعوديون مخيرين ما بين قبول إساءات البعض- ولا أقول الكل- للسعودية قيادة وشعباً، أو التصدي الحازم لذلك، حتى وإن أثر على العلاقات بين البلدين. إذا ما تأملت طبيعة الإساءات الصادرة من البعض، وجدتها قد استخدمت «الصورة النمطية» الشائعة (stereotype) لتبرير ما حدث. فالمصري يرى السعودي، وفق انطباع شائع، وكذلك قرأ السعودي- أو فسر - الحملة عليه، وفقاً لانطباعه الشائع عن جاره المصري. لا حاجة لاستعادة تلك الصور النمطية، لأنها بالأساس صور تحوي القليل من الصدق والكثير من الوهم، فالمواصفات السلبية نفسها، التي يمكن أن تقال عن الشخصية المصرية، يمكن أن تقال أيضاً عن الشخصية السعودية، أي أن الأوهام السلبية الشائعة، تعبر عن ثقافة سلبية مشتركة، أكثر من كونها تشرح خصوصية كل طرف. هناك في كل علاقة بين دولتين، أو شعبين، أو حتى بين أي شخصين، شيء من التاريخ المشترك، أو التجربة، وهذه بدورها تتضمن نواحي إيجابية أو سلبية، أو قل ذكريات طيبة وأخرى سيئة. تأمل العلاقة بين كل من إنجلترا وفرنسا، اللتين تورطتا في حرب المائة عام (1337 ـ 1453)، ثم إبان التوسع الإمبراطوري بين بريطانيا وفرنسا أيضا، ومع ذلك يجمع بين البلدين تاريخ من المصاهرة بين الأسر المالكة، والفئات الشعبية، والتبادل الثقافي والتجاري وهلم جرا.

في كتاب ممتع صدر العام الماضي بعنوان «ألف عام من إغاظة الفرنسيين»، كتب ستيفن كلارك (2011) ان المشاحنات والتعليقات الساخرة بين البلدين، لم تكن محصورة في عصور الإمبراطوريات الماضية، بل استمرت جزءاً من التعليقات والشتائم حتى في ذروة التعاون البريطاني ـ الفرنسي لخلق وحدة اقتصادية وسياسية بين الأوروبيين. وصف الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان - مرة- رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت تاتشر بأنها «برجوازية قصيرة من الريف». أما الرئيس الأسبق أيضا فرانسوا ميتران، فقد استهزأ مرة بعقلية « بائعة البقالة» لدى تاتشر في إشارة إلى الصورة النمطية للبريطانيين كشعب، من باعة الدكاكين. وإذا كنت تعتقد أن هذه الأوصاف مهينة، فإن كلارك يشير إلى أن السفارة البريطانية في باريس، كانت قد وضعت في بهو الاستقبال الرئيسي للسفارة، لوحة ضخمة للدوق ولنغتون، الذي هزم نابليون في معركة ووترلو (1815). هناك أمثلة كثيرة ومعاصرة على علاقة الحب والكراهية، أو الصداقة والعداوة، صبغت تاريخ العلاقات بين دول أوروبية كثيرة. تاتشر - مثلاً- صرحت بمخاوفها لغوربتشوف من اتحاد شطري ألمانيا بعد الوحدة في 1990، والأميركيون ظلوا على علاقة متذبذبة بدول أميركا اللاتينية، حتى بعد انهيار المعسكر الشرقي، وإلى وقت قريب احتج بعض الأميركيين على الموقف الفرنسي الرافض لغزو العراق في 2003، فطالبوا بتسمية «الفرينش فرايز» بـ«فريدم فرايز». إذا ما عدنا إلى تارخ الشرق الأوسط، فنادرا أن نجد بلدين عربيين، ليس بينهما «صور نمطية مشوهة» عن بعضهما بعضا، وحتى في البلد الواحد ستجد نعرات جهوية، ومناطقية، وقبلية، ناهيك عن العصبيات القومية والعشائرية في منطقة واحدة. في الخليج هناك توتر شبه دائم بين الفرس والعرب، وفي العراق توتر دائم بين الترك والكرد من جهة والشيعة والسنة من جهة أخرى، وحتى في بلد متجانس -نسبياً - كمصر، هناك فروقات طبقية وجهوية بين الوجه البحري والقبلي، وتوصيفات خاضعة للأصول والعرقيات، التي لا يخلو منها أي بلد. في الأزمة الأخيرة بين السعودية ومصر، خرجت فئة قليلة وأججت التوتر، وبطريقة غوغائية اعتدت على بلد ذي سيادة، وكالت أفضع التوصيفات لقادة سياسيين سعوديين، يحظون باحترام ومحبة وشعبية داخل حدود السعودية وخارجها، ولكن في الوقت ذاته خرجت أصوات وكتبت أقلام من داخل مصر تندد بما حصل، وتعتذر عن أي إساءة تسببت بالتعدي على سيادة المملكة. أمام هذا المشهد هناك طرحان: أحدهما يذكر بعمق العلاقات التاريخية، ويحذر من المساس بالأخوة والتاريخ المشترك بين البلدين، وهناك- أيضاً- أصوات تؤجج للخلاف، وتريد تحميل العلاقات أكثر مما تحتمل تحت شعارات على نمط: «صيانة الكرامة» واستعادة «الشوفينية» القومية في إدارة العلاقات مع الخارج. حقيقة، العلاقات بين السعودية ومصر، أو أي بلدين آخرين، محكومة بالاحترام المتبادل، وبالتاريخ المشترك للغة والدين والمصاهرة، ولكن فوق ذلك كله هناك المصالح السياسية المتبادلة. منذ تأسيس السعودية واستقلال مصر، كانت العلاقات محكومة بالمصالح، فحين كانت مصر ترى مصالحها مع السعودية، كانت العلاقات تتطور والتعاون يتوثق، وحين غيرت مصر من توجهاتها السياسية، اختلفت المصالح فتوترت العلاقات. في الفترة الملكية في مصر كانت هناك فصول للتقارب، وأخرى للتوتر، وفي الفترة التي أعقبت ثورة يوليو 1952، كانت هناك مراحل توترت فيها العلاقات حد القطيعة، ومراحل تقارب فيها البلدان بناء على مصالحهما المشتركة. عالم السياسة المعروف، إلكسندر وندت، صاغ نظرية مهمة في العلاقات الدولية نهاية التسعينات في كتابه «النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية» (1999) ملخصها أن العلاقات بين الدول مبنية على معطى من تاريخ ثقافي مشترك بين أي بلدين، وحددها في ثلاث علاقات: العداوة و(يمثلها المنهج الواقعي لتوماس هوبز). المنافسة و(يمثلها المنهج النفعي لجون لوك). والصداقة و(يمثلها المنهج المثالي لإمانويل كانت). هذه الثقافات الثلاث تؤثر على سلوكيات الدول تجاه بعضها بعضا، وهناك مستوى آخر للطريقة التي تسعى بها الدول لتبيئة تلك الثقافة في محيطها: فهي قد تفرض قيمها- ومصالحها كذلك- عن طريق الإكراه (القوة العسكرية والاقتصادية)، أو المقايضة عبر تغليب مكاسب التقارب، أو عبر استدعاء الشرعية، أي استخدام القوة الناعمة لثقافتها. تأمل دولتين أحداهما ديمقراطية/ليبرالية مثل أميركا، والأخرى ثورية/دينية مثل إيران. كلا البلدين استخدم القوة العسكرية لنشر قيمه، وفي الوقت ذاته، مارسا القوة الناعمة في محيطيهما. إذا ما حاولنا تبسيط نظرية وندت، فبإمكاننا القول إن هناك أنظمة تغلب طابع الإكراه لإجبار دول أخرى على القبول بسياساتها، أو تسعى لذلك من خلال تغليب المصلحة، التي تتأتى من خلال التعاون، وهناك أنظمة تتبنى منهج الثورة، وعليه فإنها ترى أن الحل هو في تصدير ثورتها -أو قل التبشير برسالتها- لتحقيق مصالحها مهما كانت تلك القيم. أهمية أطروحة وندت، تكمن في أن العلاقات الجيدة بين أي بلدين، ليس بالضرورة أن تكون ناشئة عن ثقافة متشابهة، فأي بلدين ثوريين على سبيل المثال قد يسعى كل منهما إلى تغليب رؤيته - أو ثورته - على الآخر. في هذا الإطار تأمل الخصومة التاريخية بين بلدين شيوعيين مثل الاتحاد السوفياتي والصين، أو نظامين بعثيين كما في «عراق صدام حسين» و«سوريا حافظ الأسد». العلاقات بين السعودية ومصر، يمكن قراءتها من خلال هذا المنهج، فقد كانت هناك حالة من محاولة فرض الرؤية السياسية، لطرف على حساب الآخر في فترة تاريخية، وكانت هناك مرحلة حاول كل طرف فيها تغليب مبدأ المصالح المتبادلة - أو المشتركة- بينهما، ونحن الآن نمر بمرحلة يريد البعض منها أن تعيد صياغة العلاقة وفق رؤية ثورية جديدة، كما كان الحال عليه في زمن تمادي المد الثوري/القومي، ضد الحكومات الخليجية في الستينات. اليوم، تمر مصر بمرحلة مضطربة، تتنافس فيها قوى سياسية مختلفة على إعادة صياغة سلم الأولويات، وإعادة تفسير المصالح القومية لمصر ما بعد النظام السابق، أي أن هناك من يرى التأكيد على مصلحة مصر في استمرار تقاربها مع السعودية، وهناك من يرى أن مصلحة مصر تكمن في الابتعاد عن السعودية، والتحالف- كما يطالب البعض- مع نظام ثيوقراطي مثل إيران. العلاقات بين البلدين لن تعود كسابقها، إلا إذا تغلبت رؤية توثيق المصالح مع السعودية على دعاة تغييرها، ولذلك من الواجب أن يتم دعم أصوات الصداقة بمواجهة دعاة الفرقة، وهذا لن يتأتى إذا ما لجأ أي طرف إلى تغذية الفرقة وتبريرها بالصور النمطية المشوهة عن الآخر. السعودية ومصر لديهما مصالح مشتركة مهمة، ولكي يتجاوزا الخلاف لا بد وأن يعود كل من البلدين إلى استحضار أهمية استمرار تلك المصالح. لا شك، أن الاحترام المتبادل هو أمر مهم، ولكن المصالح هي الأكثر بقاء.