هذه من المؤامرات الخطيرة

TT

لا أريد التجاوز على بلاد الشام وشبابها الشجعان إذا ما وصفت مصر بقلب العروبة، فكان لمصر ثقلها الثوري والثقافي على طول العالم العربي وعرضه. ومن المد الثوري ما كان مفيدا، ومنه ما كان ضارا أيضا. وعلى الرغم من حب الزعامة لدى عبد الناصر، فإنه كان زعيما بعيدا عن الفساد، وهذا وحده يكفي أحفاده فخرا. بيد أن المد الثوري الناصري وما تبعه من مواقف، قوبل بمواقف عربية شعبية وحكومية بناءة وأحيانا تاريخية بغض النظر عن التصادمات هنا وهناك. وعلى مستوى الحرب، فإن العرب لم يكن لهم دور في غلق الملاحة الجنوبية في ممر شرم الشيخ، الذي أخذ ذريعة لحرب يونيو (حزيران). وأذكر أن ضابطا مصريا كان يدرسنا اللغة العبرية في الكلية العسكرية العراقية وقتذاك، أخرج علبة ثقاب وأشعل عودا وقال: «هذا غلق الملاحة».

وفي حرب أكتوبر (تشرين الأول) كان سربان من القاصفات التعبوية العراقية بطياريها في مقدمة طائرات الضربة الجوية الأولى، التي عبرت أجواء السويس لمهاجمة مواقع الدفاع الجوي الإسرائيلية وغيرها في سيناء، فيما كان البعثيون حكام العراق آنذاك على غير وفاق مع السياسة المصرية عموما.. ورابطت قوات رمزية سعودية وكويتية على جبهات الحرب.. وكان للمملكة العربية السعودية الدور الأكبر في استخدام النفط أداة مباشرة من أدوات الحرب.. وكان الموقف الجزائري مشهودا.. وفتح العراق سابقا، والخليج والأردن سابقا وحاليا، الأبواب أمام شباب مصر للعمل.. ومع أنه استحقاق قومي وتنموي، فإنه يدل على البعد الاستراتيجي بنظرة تفاعلية جديرة بالانتباه.

وكان القلق العربي على مصر كبيرا خلال ثورة الشباب، التي لولا القوات المسلحة بقيادتها الواعية ومخابراتها المنظمة، لتحولت بأكملها إلى ساحة فوضى لا تدع شبرا من الأرض إلا وتركت دخانا فيه؛ فوقف الخليجيون مع تفهم متطلبات التغيير ووقفوا مع مصر كلها. ومن تابع فضائيتي «العربية» و«الجزيرة» خلال أسابيع الثورة، يدرك الموقف التفاعلي الخليجي.

فماذا حدث يا شباب مصر؟ هل نسيتم أن الرئيس مبارك قد رحل بنفسه وبنظامه، وأن الأمة التي وقفت معكم في أحلك الظروف تريد لمصر أن تأخذ دورها القيادي بسرعة نهوض ثوري؛ وليس أن يجر نفر من الغوغاء والبلطجية حبال الشد خارج حركة التاريخ لضرب المسار التاريخي العربي.

أنا - بصفتي مراقبا عن بعد - لا يمكن أن أفسر ما جرى أمام السفارة السعودية في القاهرة، إلا وفق نظرية التآمر السلبي.. فالمطلوب الآن ضرب امتدادات مصر الراسخة، وضرب مناطق الاعتدال بعضها ببعض وإشاعة عدم الثقة، والتشكيك في وحدة العمل الجماعي المتضافر مع مواقف دولية بناءة، وإثبات عدم جدوى الوقوف إلى جانب المكافحين من أجل الحرية؛ طليعة الجيل الجديد من شباب تغنى بهم الفن المصري قبل غيره.

المهم ليس التحزب والتعاطف مع فرد مهما كانت الوقائع، بل المهم التنبه إلى أن المنطقة تمر بمرحلة خطيرة للغاية وستترك آثارها لعشرات السنين. وكل شيء يتوقف على التفاعل الإيجابي، حيث يبقى الشباب في أمس الحاجة لرؤية وتصورات القيادات العسكرية غير العادية، ولخبرة كبار السياسيين من خارج الطامعين في كراسي الحكم بغير وجه حق، ولخبرة وتفسير ومتابعات أجهزة المخابرات التي لها دراية تستحق الانتباه.

كان الأوفق أن يترك لسليمان وشفيق وغيرهما ممن عملوا في مؤسسات الدولة الترشح للانتخابات.. أليست هذه لعبة الديمقراطية؟ فإن فاز سلفي أو ممثل الإخوان المسلمين، فسيثبت أنه صاحب استحقاق بلا منازع، وإن فاز سليمان، فتلك إرادة الشعب.

لقد أصيب شمال أفريقيا العربي بصدمة التغيير ولم يستفق منها بعد. ولولا جيش مصر، لغسل العرب أيديهم من المنطقة من غرب القناة إلى المحيط. أما في السودان، فلم تشغل حرب الجنوب العرب، لأن حضوره القيادي كان مضطربا ومشوشا في الأساس، ومن الصعب معرفة هويته بين الادعاء والممارسة.

وتبقى مسؤولية العرب تجاه مصر كبيرة، وسيأتي يوم تشاهد فيه شوارع القاهرة مشحونة بملايين الشباب المعبرين عن قوة الوعي ولو بعد حين! فالعرب بلا مصر سيتحولون إلى معسكرات تحكم العلاقة بينهم البروتوكولات الرسمية والمصالح الضيقة. فإلى أين هم ذاهبون؟

ليس بحكم الثقافة والممارسة كما يظن البعض؛ بل وفق المعطيات الواضحة، فإن المنطقة العربية تمر بمرحلة تآمرين: سلبي وإيجابي. تصادم سري قوي، ولا يعقل الانسياق وراء تصرفات مجزأة ينقصها الفهم الاستراتيجي.