معارضة ضائعة!

TT

لم أجد بين من قابلتهم خلال الأسبوعين الأخيرين، من داخل سوريا أو من خارجها، من عبر عن ثقته بالمعارضة السورية. لقد فاجأني أن المتحزبين من هؤلاء انتقلوا من إبداء التذمر والضجر واليأس من مواقف أحزابهم إلى نقد جميع مكوناتها ومجالسها وهيئاتها. من الأمور الكاشفة جدا أن من كانوا يدافعون عن المعارضة السورية من المنتمين إليها والعاملين تحت لوائها هم اليوم أشد الناس انتقادا لها وتذمرا منها، بل إن كثيرين من هؤلاء أخذوا يتبرأون من أحزابهم وسياساتها، ويعلنون بوضوح وصراحة فشلها في كل ما تصدت له من مهام، عدا نجاح بعض تكويناتها في ملاقاة النظام عند منتصف الطريق، ومساعدته على تنفيذ برنامجه القائم على العنف والانقسام الوطني والضغط بالقوة على الشعب كي يهجر مشروع الحرية وسلميته وطابعه المجتمعي الشامل، بعد أن قدم آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى ومئات آلاف المعتقلين على الدرب إليه.

ثمة إجماع تشكل خلال السنة الماضية عامة، والأشهر الأخيرة منها خاصة، على أن المعارضة بتنظيماتها المختلفة هي التي يجب أن تكون من الآن فصاعدا موضوع النقد ومادته، ما دامت الأخطاء المقترفة لم تحدث من تلقاء ذاتها، بل هي أخطاؤها هي بالذات، ولأن نقد مواقفها وآرائها لم يصحح النهج السياسي والسلوكي الذي أدى إليها، فمن الحتمي والضروري انتقادها هي كجهة تقف وراءها، بالنظر إلى أن نقد سياساتها لم تعد تعبر عن حقيقة الأمور، ولا تفضي إلى خروج السوريين من عنق الزجاجة التي يجدون أنفسهم فيها بسبب طابع تنظيمات وأحزاب تسمي نفسها المعارضة، تنتج الخطأ تلو الخطأ، فمن الضروري أن تكون محل رفضنا بعد أن أعطاها الحراك ما يكفي من الوقت، ووضع تحت تصرفها ما يكفي من المقاومة الشعبية والنضالات المختلفة، التي كان من شأنها أن تشكل حاضنة تعينها على تصحيح أمورها وتطوير عقلياتها وممارستها، لكنه يتبين منذ بضعة أشهر أن العيب ليس في الأقوال والمواقف وحدها، بل هو أساسا وحصرا في الجهات التي تصدر عنها: في المعارضة.

وكنت إلى ما قبل أيام قليلة أعتقد أن المعارضة لا توحد مواقفها، ليس لأنها عاجزة عن توحيدها، بل لأن عقبات خارجة عن إرادتها تحول دون ذلك، تتعلق بالظروف السورية والعربية والإقليمية والدولية الراهنة، كما تتصل بشيء من تاريخها وملابساته المعقدة، وبعلاقاتها بعضها مع بعض ومع النظام القائم في بلادنا، لكنني أعتقد الآن أنها لا تريد الوحدة، أكانت وحدة مواقف أم تنظيمات، وأن بعضها يرى في الشقاق جزءا تكوينيا من خطة سياسية يجب التمسك بها، لاعتقاده أن ثمارها ستكون يانعة بالنسبة إليه، لاعتقاده أن المرحلة المقبلة في سوريا ستكون إسلامية بالضرورة، لأن هذا هو خيار أميركا باراك أوباما، وأن بعض الدول الإقليمية، وخاصة تركيا، تتبنى هذا الخيار، فهو لأول مرة في تاريخ العرب المعاصر والحديث خيار دولي وإقليمي، وهو خيار رابح لا محالة، فلا خير في تضييع وقت الإسلاميين على تحالفات ومواقف موحدة، إلا إذا أتت وفق شروطهم ورؤيتهم وضمن حساباتهم.

يزيد من اقتناع هؤلاء بهذه النظرة الخاطئة جدا ما يتدفق عليهم من أموال تمكنهم من استغلال جوع الشعب وبؤسه لشراء تأييده أو ابتعاده عن أحزاب وقوى وتيارات المعارضة الأخرى، فهل يعقل أن يسعى هؤلاء إلى الوحدة مع غيرهم إن كانت الوحدة تعني نهاية هذا النهج أو وضع قيود عليه، وتلزمهم بالتنسيق مع من تريد قهرهم والتغلب عليهم وإخراجهم من «الساحة»، وتقوض سعيهم إلى جعل المعركة في سوريا حكرا على طرفين: هم من جانب والنظام من جانب مقابل؟ هذه الخطة، التي تحتم إقصاء الآخرين واستبعادهم وتشويه سمعتهم ورفع الكراتين ضدهم واتهامهم بالخيانة في المظاهرات، هي سبب الاستعصاء الخانق في علاقات أطراف المعارضة السورية، ليس فقط لأنها تستثير ردود أفعال لدى التكوينات والتكتلات الحزبية تشبه طبيعة ما يفعله الإسلاميون، بل كذلك لأنها تحول الصراع من معركة ضد النظام إلى معركة داخل المعارضة، التي ترى عندئذ في الفرقة استقلاليتها، وفي الشقاق دفاعا عن خصوصيتها، وتبدأ بالعمل انطلاقا من قواعد وتدابير إقصائية واستبعادية بدورها. ماذا يبقى من القضية الوطنية؟ وكم تكون حصة الحراك المجتمعي من أجل الحرية أولوية في أجواء هذه محددات السياسة فيها؟ لا شيء، أو القليل جدا مما يتناقص من يوم لآخر.

لا تريد المعارضة أن تتحد أو تتقارب، ولا تستطيع أن تتحد أو تتقارب وهي تدافع عن خلافاتها باعتبارها مواقف مبدئية تضمن دورها ونضاليتها. لذلك، يجب أن نرى الحقيقة ونقر بها دون لف ودوران، ونفكر بكل جدية في سبل وآليات عمل وطني ليست جوامعه المشتركة كلامية بل عملية وضاربة، وليست رهاناته نقيض ما يعلنه، تلزم الطرف الإسلامي بأولوية الصراع ضد النظام، وبأن هذا يتسع لكل جهد مخلص ونزيه، من أي جهة أتى، وتقنعه بالإقلاع عن الصراع منذ اليوم على مرحلة ما بعد النظام، لأن سياسته هذه تتطلب الصراع ضد أحزاب وتجمعات المعارضة الأخرى، الذي يبدد أي جهد لتوحيد القوى في معركة طرفها المقابل نظام ليس لدينا أي تناقض عدائي مع أي أحد سواه، بينما التناقض مع بقية أطراف المعارضة ثانوي الطابع والهوية، ولا يجوز أن يحتل الصدارة من ممارسات ومواقف أي فصيل إسلامي، على عكس ما هو الحال في الحال السورية القائمة، حيث يصارع التيار الإسلامي بمختلف توجهاته النظام والمعارضة في آن معا، غير آبه للنتائج التي تتمخض اليوم وستتمخض غدا عن دوره هذا، وأهمها على الإطلاق فشل الثورة، وإلا فسفح المزيد من دماء شعب يزعم أرباب هذا التيار ليل نهار رغبتهم في حقنها، ويتهمون كل ما لا يقر سياستهم بالتسبب في هدرها.

المعارضة السورية مريضة إلى درجة تصعب معالجتها: أما مرضها فيكمن بكل بساطة في «قلة عقل» من يقررون أمورها ويديرون شؤونها، وفي ما ينتج عن خفتهم السياسية من تهافت في الحسابات، وطرق مزدوجة لا يعرف أحد العلني من السري فيها، مع أن ثورة الحرية تتطلب أقصى قدر من النزاهة والوضوح، وأخيرا: من تعامل غير مستهتر مع قضية الشعب، وما ينجم عن بيئة حزبية وقيادية هذه صفاتها من ضغائن وأحقاد وصغائر تزيح من نفوس المنتمين إليها أي جانب إنساني أو علاقة طبيعية.

في لقاء ضمني وبعض الزملاء مع الأمين العام لجامعة الدول العربية الدكتور نبيل العربي، اقترحنا اعتماد وثيقة «المجلس الوطني السوري» التي أقرت في إسطنبول كأساس لحوار المعارضة حول مشتركات وجوامع يمكن انطلاقا منها تحديد مواقف مشتركة في مسائل غدت اليوم مصيرية، كنجاح مهمة كوفي أنان وتحديد تفاصيل مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية، وتطوير وتعميق الحراك الشعبي والمجتمعي في سوريا على مختلف أصعدته. قبل الرجل الاقتراح ووعد بدعوة المعارضة إلى لقاء وشيك في القاهرة تنجز خلاله هذا العمل. أراهنكم أن هذا لن يحدث، فإن تصادف وحدث، تكفلت أطراف من المعارضة بإفشاله، ما دامت القوى الإسلامية تنطلق من إنكار وجود الآخر، والتنكر لشرعية ما يقول ويفعل، والتصميم على احتكار الثورة وأسلمتها!

هنيئا للنظام السوري معارضته عامة والإسلاميين منها خاصة!