لا تظلموا المفتي

TT

زار الرجل المحترم علي جمعة (مفتي الديار المصرية) القدس الشريف، وصلى هناك، ودعا له أن يُفك أسره، وانتهت الزيارة لتبدأ عاصفة من الهجوم على الرجل. وقبل أن نتفق أو نختلف معه لا بد أن نؤكد أننا ضد أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، لسبب بسيط ومنطقي ولا يحتاج إلى نقاش وجدل، وهو أنها دولة احتلال؛ لا تزال تحتل الأراضي العربية ويدها ملوثة بدماء العرب. وعلى هذا الأساس، عندما قررنا أن نعقد المؤتمر الدولي للمصريات بالقاهرة عام 2000، حضر ما يقرب من ألفي عالم آثار من كل دول العالم، واعتُبر هذا المؤتمر من أنجح المؤتمرات التي عقدت لعلم المصريات، وقد كان لي الشرف بأن أكون المسؤول عن تنظيم المؤتمر، وذلك قبل أن أتولى رئاسة الآثار بعامين. وتقدم علماء إسرائيليون للاشتراك في المؤتمر، وبعد رفض اشتراكهم لحملهم الجنسية الإسرائيلية نجحوا في تشكيل لوبي من علماء آخرين من أوروبا وأميركا ممن اشتركوا في المؤتمر، وقبل بدء الفعاليات، وجدناهم يهددوننا بالانسحاب تضامنا مع زملائهم، وهنا تحاورنا وعرضنا لهم لماذا لا نطبع مع إسرائيل، وبعدها تركنا لهم حرية القرار. وكانت المفاجأة عدم انسحاب عالم واحد من المؤتمر. بالحوار والمنطق وليس بالمواقف العنترية تؤخذ الحقوق وتُعرض وجهات النظر. لقد تغير العالم من حولنا وما زلنا غير قادرين على الحوار مع أنفسنا.

أعلن علي جمعة بكل وضوح أنه يستحيل أن يطبع مع إسرائيل وأن زيارته لا دخل لإسرائيل بها؛ سواء من قريب أو بعيد. هنا كان يجب، بدلا من النيل من شخصه وتجريحه والمطالبة بإقصائه، أن نتحاور معه لنعرض وجهات النظر حول الموضوع نفسه؛ هل زيارة العربي مسلما كان أو مسيحيا للمقدسات بالقدس تخدم إسرائيل أم إخواننا بفلسطين؟ وهنا سنجد وجهتي نظر لكل منهما منطقها: الأولى تقول إن تراثنا ومقدساتنا تعاني تحت الاحتلال الإسرائيلي؛ فلماذا نعاقب المسجون ولا نزوره ونشد من أزره ونقويه ونبعث برسالة للعالم كله مفادها أن هذه أراضينا وميراثنا ولن نتركه لمحتل! أما الفريق الثاني، فيقول إن زيارة فضيلة المفتي أو أي شخصية عامة لها وزنها الأدبي أو الديني أو السياسي سوف تعطي لإسرائيل الحق في أن تعلن أنها لا تمنع أحدا؛ مسلما أو مسيحيا، من زيارة القدس، وأنها مفتوحة لكل طائفة دون تحيز، وبالتالي فليس هناك من قضية أو مشكلة.

وهذه قصة علنا نأخذ منها الموعظة في سلوكنا عند الخلاف، وهي أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد أرسل جندا إلى بني قريظة، وأمرهم بألا يصلوا العصر إلا وهم في بني قريظة، وفي الطريق، حان موعد صلاة العصر، فصلى بعض الجند الصلاة في وقتها، بينما انتظر آخرون حتى دخلوا بني قريظة، فصلوا صلاتهم ولم يختلف الفريقان ولم يشتبكوا مع بعضهم بعضا، بل تحاوروا، وكان الفريق الأول متمسكا بأن أوامر النبي (صلى الله عليه وسلم) هي حثّ على الإسراع، وليست نهيا عن الصلاة في موعدها، بينما الفريق الآخر أكد على تطبيق الأمر بصورته ومفهومه، وليس ما يمكن أن يُفهم منه.

في ظني أن زيارة المفتي للقدس تُحسب له ولا تُحسب عليه، فهي شجاعة نادرة بأن يذهب ويصلي في المسجد الأقصى ويقابل الشخصيات الفلسطينية، ويؤكد أن القدس في قلوب كل العرب ولن نتنازل عنه للعدو ومحاولاته الكثيرة لتهويد القدس، وهذا ما يجب أن نقف ضده بكل الوسائل. إنهم يحفرون أسفل بيت المقدس لكي يمحوا اسم فلسطين، بدعوى البحث عن الوهم، بينما نحن منشغلون في إقصاء بعضنا بعضا.

إن الأصوات التي علت تطالب بمحاكمة وعزل المفتي أعتقد أنها لم تدرس الموضوع بهدوء وتعرف أن زيارة هذا الرجل المحترم جعلت العالم ينظر إلى القدس، وحركت مياها راكدة. ولا يخالجني أدنى شك في نبل أهداف فضيلة المفتي ومقاصده من زيارته للقدس.