المسافة إلى أقرب طريق

TT

ترافقنا في «الأنباء» الكويتية (1983) مع زميل سوداني يدعى أحمد حنقة. وكان فيه من اسم العائلة الكثير، وفيه أيضا من الرضا. يحنق لأقل الأسباب ويقهقه فرحا لأقلها أيضا. يغضب ويهدأ، يعترض سريعا ويقنع سريعا. أما الذي لا يتبدل فيه، فطيبته. ذات يوم جاءني يطلب إجازة شهرا ونصف الشهر. قلت له، معلوماتي أن الإجازة السنوية شهر، فلماذا النصف الإضافي. قال لأن رحلتي من الخرطوم إلى قريتي عشرة أيام ذهابا وعشرة للعودة.

يروي نيكولاس كريستوف في «الهيرالد تريبيون» حكاية شاب في الحادية والعشرين من جنوب السودان يدعى بول لوريم، نال منحة للدراسة في جامعة «ييل». أين بدأ؟ كان طفلا في الجنوب عندما أصيب بالسل، فحمله والداه إلى معسكر لاجئين في كينيا حيث يمكن معالجته، وعادا إلى القرية، حيث توفيا وبقي هو حيا، يرعاه لاجئون أكبر منه بقليل.

أرغمه رعاته على الذهاب إلى المدرسة لأنها طريقه الوحيد خارج اليتم والفقر. كان صفه مؤلفا من 300 تلميذ يجلسون تحت شجرة. وبما أنه لم يكن يملك قلما ودفترا راح يكتب أمامه على الرمل، فاحتل المرتبة الثانية بين أقرانه في جميع شمال كينيا. ففاز بمنحة دراسة إلى نيروبي، ثم فاز بمنحة أخرى إلى أكاديمية القياديين في جنوب أفريقيا. ومن هناك إلى «ييل» إحدى أهم جامعات أميركا والعالم. أكثر ما لفت نظري في الحكاية أن قرية لوريم «تبعد أياما عدة عن أقرب طرق الإسفلت». تذكرت إجازة أحمد حنقة والقطارات التي كان عليه أن يستقلها للوصول إلى قريته. نحن نعيش في عالم مترف لم يعد يخطر لنا أنه يمكن لعشرات الملايين أن تعيش دون كهرباء وماء ودواء وطرق. أو أن يخطر لأحد أن الأب والأم ينقلان ولدهما البكر إلى معسكر لاجئين لأن فيه فرصته الوحيدة للطبابة ثم يعودان ليموتا من الفقر في «قرية تبعد أياما عدة عن اقرب طريق».

معظم الجامعات الكبرى في أميركا أسست بتبرعات من أفراد. ولا تزال تزدهر بتبرعات أخرى. تصور أن في كل مصر جامعة أميركية واحدة. الأثرياء العرب لا يتبرعون للعلم. رفيق الحريري كان حالة نادرة عندما تولى تعليم 35 ألف طالب جامعي، متذكرا أيام كان عليه أن يعمل مصحح «بروفات» في دار «الصياد» لكي يستطيع متابعة دروسه في الجامعة الأميركية. لم يمكنه دخله الضئيل من الانتساب إلى الجامعة الأميركية، كما كان يحلم.

ما من مخرج آخر سوى العلم. لكن 40 في المائة من العرب لا يقرأون. النسبة 60 في المائة بين النساء. وعندما قرر الدكتور حسن الترابي والمشير البشير تدريب الفتيات على غزو العالم بحمل العصي، نسيا أن الوصول إلى العالم يتطلب إنشاء طريق أولا، ويقتضي الصرف على جيش من المعلمين والتلامذة لا على جيش من العسكر الذين لا يحاربون إلا في الداخل. كم تحتاج الآن قرية أحمد حنقة من الخرطوم؟ لا أدري. لا شك أن بعض الطرق قد أنشئت خلال ثلاثين عاما. لكن السودان لا يزال بعيدا مسافة أيام عدة عن الطريق. أمضى زمنا طويلا في استضافة كارلوس وبن لادن وتدريب تلميذات المدارس على حمل العصي. يقتضي غزو العالم استعادة ملايين المهاجرين وإقامة شيء من الطرق.