شكرا أبو كمال

TT

عندما يترجل الكبار من مناصبهم لا بد من وقفة تقدير واحترام لهم، وذلك لكي يعتبر الآخرون ويتذكر ذلك الأمر كل جيل. أنهى عبد الله باحمدان، المصرفي السعودي المخضرم، حياته المهنية كمصرفي في البنك العربي الأكبر، البنك الأهلي التجاري بالمملكة العربية السعودية، بعد سنوات طويلة ومهمة وحافلة بالأحداث والتحديات قضاها كرئيس لمجلس إدارة البنك.

قاد «أبو كمال» البنك الأهلي التجاري بمهارة وحرفية ومهنية نادرة، وسط أمواج وتيارات بالغة الحدة والدقة والخطورة كان عليه فيها أن يراعي مصالح المودعين وسمعة البنك وإرثه الكبير والنقلة النوعية التي حصلت في الملكية والإدارة، وبقي الرجل يقود كل ذلك كالربان الماهر وسط مياه أمواجها متلاطمة وشديدة الحساسية. وتحول البنك في هذه الفترات إلى صورة عاكسة لشخصية عبد الله باحمدان نفسه، فالاتزان والحكمة والتعقل والهدوء والعمل الدؤوب والكلام القليل ولكن الموزون كانت أهم صفات الرجل كما يعرفه المقربون منه، لكن الأهم كانت صفة المسؤولية والاعتمادية، فالرجل كان معروفا عنه أنه إذا ما وعد التزم، وإذا لم يستطع كان يرفض بأدب جم ولكن بحزم في الوقت نفسه. حضرت له مناسبات اجتماعية كثيرة ومناسبات مهنية مختلفة بين الندوات والمنتديات والمحاضرات، ظهر فيها أكثر إلماما ودراية وخبرة من العديد من محافظي البنوك المركزية في العالم العربي والذين كانوا أسرى نرجسيتهم وغرامهم بالميكروفونات والكاميرات، لكن كان الإصغاء والإنصات دوما من نصيب عبد الله باحمدان لثقة الناس في ما سوف يقوله بلا تضليل ولا مبالغات.

لعبد الله باحمدان معيار دقيق أشبه بميزان «الجواهرجية» وأهل صناعة الصاغة في الحكم على الناس وكيفية التعامل معهم، فهو لديه من الفراسة الشيء الكثير في تقييم من يلتقي معهم، وحدسه دوما كان صحيحا، وكذلك امتاز الرجل بلياقة ذهنية مميزة وذاكرة دؤوبة تجتر التفاصيل وتهتم بالدقائق من الأمور أبقته قادرا على اتخاذ أصعب القرارات في أهم المواقف مع مختلف الناس. واجه تحديات صعبة جدا على المستويين الداخلي والخارجي، وتعرض لحملات من التشكيك في قدرته الإدارية وجدارته، لكنه قابلها بصبر وحكمة، وجعل النتائج تتحدث عن نفسها، وقد كانت بمثابة الحديث الصادم والكافي، وأكدت مكانة الرجل وجدارته وأصمتت أفواه المشككين والغيورين والحاقدين والطامعين في منصبه.

اهتم عبد الله باحمدان بالتطوير والتدريب والعمل على التوسع المدروس في أنشطة البنك، وتميز بطروحاته وأولوياته، وأصبح البنك السعودي الأهم بمراحل كبيرة في عهده، كما أصبح عبد الله باحمدان المصرفي السعودي والعربي الأول بمراحل كبيرة جدا. أذكر لقاء سريعا جمعني معه في بهو أحد فنادق الرياض، وكان معه المصرفي العملاق الآخر إبراهيم دبدوب من البنك الأهلي الكويتي، وكان الحديث وقتها محموما في الأوساط الاقتصادية عن مشروع «اندماج» متوقع بين المصرفين العملاقين أطلق عليه وقتها الاندماج الحلم، لكن الأمر لم يتم لظروف بقيت مجهولة، وأذكر جيدا كيف تعامل أبو كمال مع الموضوع بمنتهى المهنية والحرفية والمسؤولية، وأبقى الفكرة كمبدأ قائمة، لكنه كان يعلم أن القرار ليس بالضرورة «بنكيا» فحسب.

عبد الله باحمدان رجل مهتم بالشأن العام جدا، ورعى وأطلق العديد من المبادرات باسم البنك في مجال العمل الخيري والمسؤولية الاجتماعية وتمويل المنشآت المتوسطة والصغيرة، كما كان دوره لافتا ومميزا جدا في كل مجالس الإدارة التي شارك فيها، وكان دوره قيمة مضافة وعنصرا إيجابيا كذلك.

ترجل عبد الله باحمدان من العمل الدؤوب بعد أن أتم مرحلة انتقال للمصرف العربي الأكبر واجه فيها كل أنواع التحديات التي من الممكن تخيلها، من اتهامات للمصرف، ومن تهديده، ومن تغيير في الملكية واختلاف في النهج الإداري، ومواقفه كلها مجتمعة من الممكن أن تكون مجموعة من حالات الإدارة اللافتة التي تدرس في كليات الأعمال ومعاهد الصيرفة حول العالم. وقد قاد البنك بهدوء ويخرج منه بهدوء، لكنه سيترك بصمة من الصعب على غيره في هذا المجال أن يترك مثلها، فهو خلد نفسه في قائمة الكبار وله الشكر يبقى.

شكرا عبد الله باحمدان على سنوات من الإتقان والعطاء والتميز والإنجاز والخلق الرفيع.. تميزت عن غيرك فكتب لك النجاح.. شكرا أبو كمال.

[email protected]