لبنان.. بين النسبية والواقعية

TT

في لبنان ديمقراطية «محتارة» بين التمثيل السياسي للبنانيين والتمثيل المذهبي لمجتمعهم.. وفي نفس الوقت المحافظة على طابعها الديمقراطي. ولكن، وعلى قاعدة «مصائب قوم عند قوم فوائد»، جاءت أجواء «الربيع العربي» غير المستقرة بعد على مناخ واضح، لتبرر اعتزاز اللبنانيين بديمقراطيتهم الفريدة رغم هشاشتها.

صحيح أنها كانت، في أساسها، ديمقراطية مستوردة من الخارج، وصحيح أنها كانت ديمقراطية مفروضة فرضا من سلطة الانتداب الفرنسي في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وصحيح أنها اعتمدت كإطار ضمان لتعايش الطوائف الدينية في لبنان انطلاقا من معادلات حسابية ديموغرافية استوجبت صياغة توافقية لآليتها، وصحيح أن توافقية هذا النظام غالبا ما تتقدم على ديمقراطيته، وصحيح أن المعادلة التمثيلية لهذه الديمقراطية التوافقية معرضة باستمرار للخلل بحكم تبدل المعطيات الديموغرافية للمجتمع اللبناني.. إلا أنها، كما يبدو، تجذرت بالممارسة إلى حد سمح لها بأن تبعث حية من تحت ركام حرب أهلية ماحقة وأن تتجاوز مسلسل اغتيالات سياسية سعى إلى تقزيمها لعجزه عن القضاء عليها، وأن تتحدى، نسبيا، تأثير السلاح غير الشرعي على آلية قرارها السياسي.

أهمية الديمقراطية اللبنانية، في هذه المرحلة الدقيقة من مصير المجتمعات العربية، لا تعود إلى «مثاليتها» - وقد تكون أبعد الديمقراطيات عنها - بل إلى صمودها كأسلوب تعايش معقول بين المكونات الطائفية والإثنية والحزبية للمجتمع اللبناني في وقت تظهر فيه تحولات دول الجوار أن العامل الديني، وحتى المذهبي، لا يزال محركا أساسيا لشارعها.

لذلك يبدو لافتا أن ترتفع في لبنان، في هذا الوقت بالذات، أصوات تطالب باعتماد النسبية قاعدة للنظام الانتخابي وكأن لبنان تجاوز عُقَده الطائفية وبات مهيئا للانتقال إلى مرحلة سياسية أكثر تقدما من ديمقراطيته التوافقية.

بصرف النظر عن تداعياتها المحتملة على الصيغة التوافقية للنظام الديمقراطي في لبنان. لا جدال في أن الاقتراع النسبي نظام يضمن تمثيلا شعبيا أفضل لمجتمعه. وبالنسبة للبنان نظام يكفل، أكثر من غيره، تمثيلا أوسع لفسيفساء ساحته السياسية بكل تلاوينها. ولكنه نظام يصلح للمجتمعات الحزبية التمثيل والخالية من العقد الطائفية لا المجتمعات المذهبية الاصطفافات، ويتناقض بالتالي مع كل مفاهيم «الديمقراطية التوافقية» في لبنان.

أول ما يمكن توقعه من اعتماد نظام الاقتراع النسبي في وضع لبنان الراهن هو الإخلال بمعادلة التمثيل المذهبي (غير المتكافئ أصلا). ولأن الإخلال بهذه المعادلة لا يستتبع، بالضرورة، التوصل إلى نظام علماني (بمعنى اللاطائفي) قادر على أن يكون بديلا عمليا للديمقراطية التوافقية، فقد تكون المقاربة الأمثل لاعتماد النسبية في التمثيل البرلماني هي «توأمته» مع نظام مواز يؤمن، بدوره، تمثيلا متوازنا للشرائح المذهبية في لبنان.

بانتظار أن يبلغ المجتمع اللبناني مرحلة من النضج تسمح بإلغاء الطائفية السياسية من نظامه التمثيلي، لا مفر من «موازنة» أي برلمان منتخب على قاعدة النسبية مع مجلس شيوخ منتخب على قاعدة طائفية تعتمد مبدأ التمثيل المتساوي، عدديا، لجميع الطوائف والمذاهب اللبنانية الأساسية، توكل إليه صلاحية البت بدستورية القوانين الصادرة عن البرلمان «النسبي».. أي مجلس شيوخ على غرار مجلس اللوردات البريطاني، يكون الهيئة الدستورية الأعلى في البلاد والضامن الرئيسي لمعادلاتها السياسية - الطائفية. وقد ينفع التذكير بأن اتفاق الطائف، مرتكز دستور لبنان الحالي، نص على إقامة مجلس شيوخ في إطار التمهيد لإلغاء الطائفية السياسية في لبنان.

اعتماد هذه المقاربة الثنائية للقانون الانتخابي في لبنان لا يضمن تصحيح التمثيل الشعبي على المستويين السياسي والمذهبي فحسب، بل يمثل ضرورة مرحلية لتقطيع فترة اللااستقرار التي لا يزال «الربيع العربي» يمر بها في ما يبدو امتحانا آخر لمستوى نضج مجتمعات الجوار.

وقد يكون من المؤسف على هذا الصعيد أن تجري رياح «الربيع العربي» بما لا يشتهيه طلاب العلمنة في لبنان.