ما لن تفعله تركيا

TT

جلسة البرلمان التركي لمناقشة سياسة ومواقف حكومة العدالة والتنمية في الموضوع السوري كانت صاخبة ومشحونة بالتوتر الشديد، وتبادل الاتهامات بين الحكم والمعارضة.

رجب طيب أردوغان وحكومته يعرفان أن أنقرة تتعرض في الموضوع السوري لحرب إعلامية ونفسية يشنها الحلفاء والشركاء في الخارج قبل المعارضة المتربصة في الداخل، هذا دون أن نهمل طبعا الضربات الموجعة التي يوجهها النظام في دمشق وأعوانه. أردوغان يعرف جيدا أن التركيز يتم على اتهامه بالتسرع في شن الحرب على النظام السوري والظهور وكأنه جاهز لدخول المواجهة العسكرية مع دمشق في أي لحظة، بينما عمليا وعلى الأرض يوصف بأنه أسهب في التحليل وتكرار الإنذارات والتحذيرات إلى النظام السوري لا أكثر.

لا اختلاف على أن أنقرة، وبالمقارنة مع الاندفاع والحماس الكبير الذي أظهرته في بداية الأزمة السورية، تجد اليوم صعوبة في شرح بعض المواقف والمسلمات التي تبنتها. لكن داود أوغلو ومن على منصة البرلمان جدد التزام تركيا بكل تعهداتها ومواقفها حيال الشعب السوري والمعارضة والمجتمع الدولي، مذكرا بأن موقف أنقرة الإنساني والأخلاقي والسياسي والتزاماتها حيال المعارضة والمنتفضين في المدن السورية ينبغي أن لا يفهم على أنها ستحارب بسيف وإرادة وقرار الآخرين، خصوصا أن بعضهم بدأ يحاسبها على سبب التأخر في إصدار الأوامر لجنودها بالرد على التحرشات والاستفزازات الحدودية.

رسالة الحكومة التركية حول عدم مصافحة اليد التي أراقت دماء المدنيين حتى تعتذر تعني أنه ليس هناك تراجع أو تساهل حيال النظام في دمشق، ولكنها تعني أيضا أن لا نية لأنقرة بالانتحار عسكريا وسياسيا على الطريقة الأميركية في العراق، وهو الموقف الذي يريده البعض منها ليتحول لاحقا إلى كارثة ونقمة عليها.

داود أوغلو قالها للمرة العاشرة: تركيا لن تدخل في مشروع إسقاط الأنظمة بالقوة لكن عجلة التغيير انطلقت ولا يمكن لأحد بعد الآن إيقافها.

كلام داود أوغلو عن الدور التركي في حملة التغيير الإقليمي وقرار تركيا أن تكون في مقدمة المدافعين عن هذا المشروع وأنه لا يمكن الاستمرار مع هذا النظام، فسره البعض على أنه بمثابة إعلان حرب تركية ضد سوريا. لو كانت أنقرة تبحث عن فرصة للمواجهة العسكرية مع سوريا لكانت حصلت عليها منذ أمد بعيد لكنها تريد غير ذلك، هي تسعى كي يتغير النظام بإرادة سورية أولا وأخيرا.

وزير الخارجية التركي يتحدث عن شرق أوسط جديد ستلعب تركيا في رسم خارطته الجديدة، ودور فاعل فيه، لكن هذا لا يعني بالنسبة للأتراك إشعال الحروب في المنطقة ليكون لهم ما يريدون. داود أوغلو انتقد الذين يجمعون على منح كوفي أنان ومشروعه الفرصة والوقت، لكنهم يصرون على محاسبة تركيا كونها لا تتحرك بما فيه الكفاية لتعطيل وإفشال هذه المبادرة.

أنقرة قالتها مرة أخرى على لسان وزير خارجيتها أمام البرلمان التركي: هي في المكان والموقع الواجب أن تكون فيه، لا خطوة إلى الوراء ولا أخرى إلى الأمام، وكررت أنه لا دعم لأي سيناريو يبقي الأسد في السلطة، رغم معرفتها أيضا أن ثمن مثل هذا الموقف هو تمسك دمشق باستدراج المنطقة بأكملها إلى المواجهة. قبل أيام فقط كانت بعض وسائل الإعلام التركية تتحدث عن التقارب بين طهران وحزب العمال الكردستاني، وعن العثور على أسلحة قدمتها طهران لمناصري الحزب لتنفيذ عمليات هجومية في المدن التركية.

هم يقولون: إن النظام السوري بعناده هذا ينتحر ويجر الشعب السوري معه بأكمله إلى طريق الجلجلة، لكن غضبهم الأكبر يصبونه على أردوغان وحكومته التي لا تتحرك للرد على التحرشات والرصاص الذي يطلق باتجاه الأراضي التركية.

أردوغان قالها أكثر من مرة: الخروقات الأمنية هي استفزاز لأنقرة وتحريض لمعارضة الداخل التركي، ومحاولة لإضعاف الحكومة التركية، وإقناع اللاعبين الغربيين بأن دمشق تملك أوراقا كثيرة قادرة على لعبها عندما تصل إلى نقطة اللاعودة.

أنقرة حذرة، فكلهم يقولون: إنه لا أمل بالنظام السوري، ويريدون أن تكون تركيا هي رأس الحربة في المواجهة المباشرة معه، لكن الكثير منهم سيسحب الحربة ويترك الرأس وجها لوجه وسط نزاع إقليمي يحمل أنقرة مسؤوليته المباشرة.

ما يتجاهله البعض أن تركيا ليست دولة عظمى، فموازنتها العسكرية هي نحو 13 مليار دولار فقط. أميركا هي الدولة العظمى، فموازنتها تصل إلى 900 مليار دولار، لكن أميركا لا تقول أكثر من الانتظار والتريث حتى انتهاء الانتخابات الأميركية.

رسائل أنقرة الأخيرة تركزت على أن تركيا تعرف أن الشرق الأوسط تحول إلى ساحة ألغام متنقلة، وأنها لا تريد أن تجد نفسها وسط هذا الحقل. تركيا تعرف أن التحرك العسكري المنفرد في الموضوع السوري الذي يطالبها به البعض سيتركها أمام الثمن الباهظ عندما يتخلى عنها الجميع كما حدث عشية الحرب العالمية الأولى.

«الباب العالي» لا يريد تكرار مأساة إعادة رسم خرائط المنطقة على حسابه حيث كان هو الوحيد الذي يدفع الثمن، لكن تركيا كما فهمنا أيضا جاهزة لتكون جزءا من قوة تدخل دولي وأممي عند صدور أي قرار بهذا الاتجاه لا يكون طبعا على حسابها، فهي لن تعطي الفرصة لمن يريد إضعافها عسكريا واقتصاديا وتحييدها وإخراجها من ساحة اللعب كما حدث لعقود طويلة، وهي التي بدأت تلتقط أنفاسها في السنوات الـ10 الأخيرة.