أدوات قديمة لا تصنع جديدا

TT

كثرت في بداية عهد بشار الأسد مساعي السوريين لتأسيس أحزاب سياسية، بحيث تجاوز عدد الأحزاب الليبرالية وشبه الليبرالية منها العشرين حزبا. وإذا ما أضيف إليها ثلاثة عشر حزبا كرديا، والأحزاب الخمسة المنضوية في إطار التجمع الوطني الديمقراطي، وحزب العمل الشيوعي، وتيار قاسيون، والمنظمة الآشورية، وثلاثة فصائل (أحزاب) للقومي السوري الاجتماعي، إلى جانب الأحزاب المنضوية في إطار الجبهة الوطنية التقدمية، يمكن القول: إن في سوريا تعددية حزبية، يدل عليها وجود أكثر من خمسين حزبا سياسيا، ومنذ بداية ثورة الشعب السوري من أجل حريته وكرامته وبناء نظام سياسي ديمقراطي تسارعت عملية تشكيل الأحزاب بحيث تجاوز عددها اليوم المائة حزب. بعضها جاء تشكيله بدافع من الانتفاضة، وبعضها الآخر جاء بتحفيز من قانون الأحزاب الذي أصدرته السلطة السورية، أو بتحفيز وتشجيع ودعم مباشر من السلطة ذاتها، وذلك من أجل إعطاء صورة موحية بأنها تجاوزت مسألة الحزب القائد في المجتمع والدولة باتجاه تعددية حزبية وسياسية نص عليها دستورها الجديد. إن عودة الروح السياسية للمجتمع بدافع من الانتفاضة كان أمرا متوقعا، ويمكن تفهمه في مجتمع حرم لعقود طويلة من ممارسة حياة سياسية طبيعية.

من جانب آخر، فإن هذه الأحزاب السياسية المعلنة في سوريا، رغم كثرتها، لا تؤشر إلى حياة سياسية طبيعية في سوريا، أو إلى سياق معين ليصيرها كذلك، بل إلى مزيد من التشويه سوف يتكشف أكثر فأكثر بعد انتصار الثورة وذلك عندما يتسارع تشكيل الأحزاب الأهلية والإقوامية والجهوية وتراجع الأحزاب الوطنية الجامعة. بطبيعة الحال أسباب ذلك كثيرة، بعضها يعود إلى أثر الاستبداد المزمن في تكوين شخصية المواطن السوري، وبعضها الآخر يعود إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بحياة السوريين، التي حولتهم إلى كائنات غير سياسية، حدود اهتماماتها يرسمها البيولوجي بما هو بحث عن مقومات الوجود، بالمعنى المباشر للكلمة، ولا يخفى دور الفساد المعمم في ذلك، بما رسخه من قيم وسلوك في حياة الناس. تفتقر الأحزاب السياسية في سوريا إلى الجماهير. إنها أقرب إلى التشكيلات الفوقية النخبوية، لا فرق في ذلك بين أحزاب السلطة وأحزاب المعارضة، ولا يشذ عن ذلك حتى حزب البعث بمنتسبيه الذين يقارب عددهم المليوني عضو، لقد برهنت الثورة على أنهم أرقام دفترية فحسب، سرعان ما كشفت الثورة عن عدم جدواهم في الدفاع عن حزبهم وسلطته، بل انقلبوا عليه ليشكلوا قوة من قوى الثورة الميدانية في أكثر من مكان.

وهي أيضا، في غالبها الأعم، أحزاب تناسلت بعضها من بعض، فتلك التي في السلطة لها مثيلات في المعارضة، لا تكاد تختلف عنها كثيرا، ربما إلا من حيث مصالح ومزاج الأشخاص الواقفين عليها. الأحزاب في سوريا أحزاب استبدالية تتحدد سلبا بعضها ببعض الآخر، وحتى الأحزاب التي تدعي العلمانية والليبرالية لا تشذ عن ذلك، بل إن بعضها (الليبراليون الجدد) يكاد يكون أكثر تطرفا في تحدده السلبي بدلالة الأحزاب الأخرى المختلفة عنها.

ورغم صخبها الديمقراطي، فإن الأحزاب السياسية في سوريا هي أحزاب غير ديمقراطية، لأن من تصير في ظروف غير ديمقراطية لا يمكن أن يكون ديمقراطيا، خصوصا أن كابوس الاستبداد لا يزال يملأ جميع مسام الحياة الاجتماعية في سوريا. واقع الحال يشير إلى أن الأحزاب في سوريا هي أقرب إلى الأخويات التي تجمعها طقوس السرية، أو طقوس الخطاب السياسي بمفرداته الخشبية التي تدل عليه ويعرف من خلالها. الحقيقة بالنسبة للخطاب الطقوسي دائما كاملة، فهي مسطرته التي يقيس بها مواقف الآخرين، والتي يحدد بالقياس إليها علاقاته الممكنة مع غيره من الأحزاب، أو القوى والشخصيات العامة، هذا يعني أن الخطاب السياسي في سوريا لا يزال محكوما بثنائية الأبيض والأسود، ويرفض منطق المساومات والحلول الوسط.

إن العقل المنتج لهذا الخطاب هو عقل ديني طقوسي بامتياز، لا يستطيع التفريق بين ما هو ممكن نظريا وما هو ممكن عمليا، يتوهم أن ممكناته دائما عملية وواقعية، وممكنات الآخرين نظرية، بل خاطئة أيضا. وبصفته هذه فهو عقل تكفيري بالضرورة، يقف في مواجهة الآخر بصفته مبشرا وهاديا، أو نافيا له، لا بصفته طرفا في علاقة حوارية، يبحث عن فسحة رمادية للتلاقي. وهذا يفسر عجز القوى السياسية السورية عن التلاقي والعمل المشترك، في إطار حركة عامة، أو تيار أو جبهة. في الواقع هذه المفاهيم الأخيرة لا تزال غريبة عن العقل السياسي السوري، أو ليست متأصلة لديه.

من المؤسف حقا أن القوى السياسية المعارضة رغم حاجة الثورة السورية إلى من يمثلها في الحقل السياسي ويعبر عن مطالبها فإنها بقيت متمسكة بتخوم تمايزها التي نسجتها مخيلتها، وهي بذلك قدمت خدمات موضوعية للنظام الاستبدادي السوري. واليوم وأمام استحقاق اجتماعها القادم في القاهرة فإنها مطالبة بتجاوز تخوم وهمها، وأن تنتقل من وضعية ادعاء التمثيل وتقديم المطالب للآخرين، إلى وضعية تقديم الحلول والعمل المشترك عليها، سواء في مواجهة السلطة، أو من أجل تكريس وعي ديمقراطي بها، يمهد لاستجماع القوى المجتمعية حولها، لممارسة مزيد من الضغوط لإسقاط النظام وإنجاز التحولات المطلوبة من وضعية الدولة الأمنية إلى وضعية الدولة الديمقراطية.

لقد ذكر نبيل العربي في أحد لقاءاته مع معارضين سوريين أن أكثر من ثمانين تشكيلا سياسيا سوريا معارضا تقدم إليه بادعاء تمثيل الحراك الشعبي وثورته، وإذا أضيف إليهم دكاكين المثقفين تصير اللوحة شديدة التعقيد، في هكذا وضعية يصير الرهان على نجاح مؤتمر المعارضة السورية في القاهرة الذي دعت إليه جامعة الدول العربية أقرب إلى الخسارة. ومع أن هناك محاولات جادة، من حيث الشكل على الأقل، أو لنقل من حيث توفر النية، للخروج من هذه الوضعية الآسنة للقوى السياسية المعارضة، يمكن ملاحظتها عند هذا الحزب أو ذاك، أو لدى تجمع هنا أو تجمع هناك، إلا أن القضية بمجملها لم تخرج عن الإطار النخبوي العام. إن الأحزاب السياسية المعارضة في سوريا محكومة بالتجاوز، إنها أدوات قديمة لا تصلح لصنع جديد.