الاستعصاء الديمقراطي في الشرق الأوسط

TT

أسبوع حافل شهدته منطقة الشرق الأوسط يمكن تلخيصه بأن هناك نقص مناعة مزمنا في التحول للديمقراطية في المنطقة، وأن الطريق قد يطول للحصول على شفاء من هذا المرض. كثيرون كانوا يعتقدون فيما مضى أن مرض نقص المناعة كان خاصا بالديكتاتورية، لذلك كان يطلق على الشرق الأوسط تعبير المنطقة الاستثناء من كل التطورات الحاصلة باتجاه الدمقرطة في العالم. الآن تبين للجميع أن هناك نقص مناعة للعمل الديمقراطي متأصلا وداخليا يكاد يكون خارج العقل والمنطق.

ولدي في هذا المقام مجموعة من المشاهد.

المشهد الأول هو مسلسل القتل غير المفسر للمتظاهرين المصريين في ميدان العباسية معطوفا على التخبط المستمر في الدوائر المصرية للسير إلى الأمام الذي يكاد يأخذ مصر إلى حرب شوارع، وكأن مصر بكل مخزونها البشري وكل طاقتها المتعلمة قد فرغت من العقول للوصول إلى بداية الطريق السليم. فقد تم الاتفاق على أن تكون هناك قواعد لمن يستحق أن يترشح في سباق الرئاسة المصرية، قبله الجميع دون استثناء، فلما تم استثناء حازم أبو إسماعيل أصر مناصروه على أن يكون شعارهم «لازم حازم» بأي صورة وبأي طريقة «لازم حازم» حتى بمحاصرة وزارة الدفاع وتقديم القرابين البشرية! وتحولت مصر بين يوم وليلة من «رجال البدل» إلى «رجال الجلابيب» وأيضا الذقون الطويلة، واختفت بين يوم وليلة مصر الثقافة والعقل والعلم والقانون!

المشهد الثاني الذي تابعته وربما ملايين غيري على شاشة التلفزيون هو مقابلة حسين سالم، رجل الأعمال والتجارة والمقاولات الذي رسخ في أذهان المواطن المصري أنه «صاحب الرئيس» في لقاء مطول مع الإعلامي عمرو أديب، وجدت مما قيل في المقابلة الطويلة، أن هناك مشكلة عميقة بين فكر سياسي واقتصادي مصمم لمتابعة المبادرة الشخصية والركون إلى الاقتصاد الحر، وبين فكر سياسي يتوخى «تفقير الناس» كل الناس، فقط لأن كثيرين لم يستطيعوا أن يحققوا ما حقق البعض! في حقيقة الأمر، إن هناك عودة لمدرسة الإفقار للجميع ما دامت هناك استحالة لإغناء الجميع! طبعا إغناء الجميع غير ممكن كما شهد كل تاريخ الإنسانية منذ بزوغ الحضارة الإنسانية. التوجه إلى الخيار الآخر «إفقار الجميع» تحت مسميات حديثة وشعارات زاعقة لن يخرج مصر أو غيرها من المأزق الاقتصادي الذي تواجهه، بدلا من النظر إلى «ضبط القوانين» وتأكيد شفافيتها وتشجيع المبادرين. لا أستطيع - ولا غيري – أن أؤكد أن كل كلام حسين سالم في المقابلة كان صحيحا، ولكن ما أستطيع أن أجزم به أن هناك كمية هائلة من المعلومات الخاطئة التي أطلقت على تلك الشخصية وربما شخصيات أخرى من رجال الأعمال المصريين من أجل تشويه المرحلة كلها، وقلب إيجابياتها إلى سلبيات، وهو أمر لا يستطيع عاقل أن يتفاءل بالمستقبل في ظلاله، حيث تنتشر «عدالة» المنتصرين وتخرس ألسن من يعرف إما تجاهلا وإما بعدا عن الشر المتوقع في مرحلة لا يتغير فيها النظام فقط، بل يتم انقلاب على الدولة بكاملها.

المشهد الثالث أنه سريعا ما استطعنا أن نستشعر سماحة مبارك أو بن علي عندما نقارن أولا التصرفات التي تتم في تونس اليوم باسم «الثورة» أو عدد القتلى الذين سقطوا في ميادين مصر بعد تنحي مبارك، هذا لا يعني أن كلا النظامين كان «ملائكيا»، ولكنه يعني أن المنتصر يقلد بشكل أوسع وأكثر ضراوة طرق تهميش الآخر المنهزم وعزله، ويتم ذلك باسم بناء «الديمقراطية»، أما إذا أردنا أن نعرف كم كان رحيما كل من بن علي ومبارك فعلينا أن نتابع أعداد القتلى وطريقة قتلهم في سوريا أو نجتهد أكثر لنتعرف على أساليب التعذيب التي تجرى في ذلك البلد المنكوب حتى نعرف على وجه اليقين أن بن علي ومبارك كانا أكثر رحمة وأعمق شعورا بالمسؤولية.

من تلك المشاهد الثلاثة السابقة واضح أن المنطقة في حالة حرب مع نفسها، فهي تقاوم العبور إلى مجتمعات ديمقراطية للأسف باسم الديمقراطية تارة، وباسم الوطنية تارة أخرى، ومرة ثالثة باسم مقاومة إسرائيل. واضح أن القصور الشديد في بناء مجتمع مدني حيوي هو المعوق الأساسي للعبور إلى الديمقراطية، هناك عشق عميق للسير وراء الشعارات دون أي مناقشة، وحب جارف للبحث عن قائد، إن لم يكن مبارك فقد يكون «لازم حازم»! أو إن لم يكن بن علي فهو شخص آخر. المجتمع المدني مفهوم ظهر في أوروبا من أجل توصيف القوى الاجتماعية المعتمدة على العمل الاقتصادي الحر، وهي التي تعتمد بشكل مستقل على تكوينات اجتماعية تقع في السلم الاجتماعي بين «العائلة» و«الدولة»، في حال تجفيف منابع العمل الاقتصادي الحر، تجف تكوينات المجتمع من إنتاج مجتمع المدني صحي، وتتعطل فعاليته ويصبح ما تبقى منه شكلا وهيكلا خارجيا يتغذى على ضرع الدولة، حيث لا يخرج عما تريده أو يريده قادتها. فالحديث عن ملاحقة «رجال الأعمال» في مصر أو تونس اليوم يدخل كمقدمة لتجفيف المكان الذي يستطيع أن ينتج مجتمعا مدنيا خارج إطار الدولة يفرز أحزابا حرة، ومقدمة منطقية لديكتاتورية لها وجه جديد اسمه تعميم الفقر وتوسيع القبضة الحديدية.

آخر الكلام:

في الغد سوف يعرف العالم من هو «ملك فرنسا» الجديد، وفرنسا لها مكان خاص في الديمقراطيات الأوروبية، فالفرنسيون ينتخبون «ملكا جمهوريا» له من السلطة ما ليس لأمثاله من الرؤساء، كل التحليلات تؤكد أن الاشتراكي فرانسوا هولاند هو الرابح لا بسبب فروق البرنامج الانتخابي، ولا بسبب الأفكار، لكن بسبب أمر عاطفي جدا، أن نيكولا ساركوزي قد كسر الحاجز بين العام والخاص، لقد أظهر قلة احترام في الخلط بين حياته الشخصية والمجال العام! الفرنسيون عاطفيون أيضا!!