صنع هزيمته وفوز خصمه

TT

تسنى لي أن أغطي أحداث فرنسا ومعاركها الانتخابية ومسرحها وفنونها وانتفاضاتها ومزاجاتها وجمالاتها، منذ وصلت إلى باريس في العشرين من العمر. لحقت بشارل ديغول إلى خضرة آيرلندا وبرودتها. وسرت خلف فرنسوا ميتران لأحضر ندوته في «راديو أوروبا 1». والتقطت صورة تذكارية مع فاليري جيسكار ديستان. وانفجرت تحت زجاج غرفتي في الحي اللاتيني ثورة أيار الطالبية. والتقيت جاك شيراك رئيسا شابا للوزراء في الأمم المتحدة ثم عجوزا متقاعدا في مقهى «لا باليت» في السان جرمان. أقمت صداقة صحافية مع زعيم الحزب الشيوعي جورج مارشيه، لأن الشيوعيين في حاجة إلى مقابلة أي صحافي.

كنت أكتب لـ«النهار» يوم كانت شؤون فرنسا أشبه بشأن لبناني. وكان سياسيو فرنسا يستقبلونني وكأنهم يمنحون وقتهم لصحافي فرنسي. وشعرت بأنني عضو خارجي في الحزب الديغولي، بسبب ما كان الرجل يمثل من خلق وطني وترفع دولي وفهم تاريخي عميق للعلاقة مع العرب ومشاعرهم وقضاياهم.

اعتدت هذه الصورة عن فرنسا! عندما فاز نيكولا ساركوزي، شعرت بخيبة القدامى الذين استجد عليهم شيء لن يعتادوه: رئيس بغير هالة يقفز من مكان إلى مكان. يرسل مطلقته إلى معمر القذافي ويسارع إلى الزواج بعارضة إيطالية. قيل إن الفرنسيين لا يهمهم كثيرا هذا الأمر ولا يعنيهم أن سيدة الإليزيه التقطت لها صورة خالية من الحشمة.

لم يكن ذلك صحيحا على الإطلاق. لم يفهم ابن المهاجر الهنغاري فرنسا جيدا. ما إن جلس في الإليزيه حتى راح ينتقم من رموزها، الرجال الذين رعوه وساعدوه وأوصلوه إلى موقع المواطن الأول. لم يستحق نيكولا ساركوزي شيئا مما أعطي. لم يكن في قامة المنصب ولم يرتفع إلى هامة الموقع.

كان يفترض في السنوات الخمس الأولى أن يعطي فرنسا ما يتجاوز الطفلة التي حملت بها سيدته. وكان يفترض في سيد الإليزيه ألا يكون انتقاميا أو ثأريا، خصوصا. لقد عرف في خطابه الرفيع أول من أمس كيف يخسر، لكنه - وهذا الأهم - لم يعرف كيف يربح. محافظون، وسطيون، أو اشتراكيون، هناك مستوى يتعين على رؤساء فرنسا المحافظة عليه. أخفق ساركوزي طوال خمس سنوات، في أن يصبح ديستان آخر، أو شيئا من جورج بومبيدو، أو شيئا من فرنسوا ميتران.

لمرة وحيدة اتفق مع ماري لوبن: وحده ساركوزي كان مسؤولا عن هزيمته وعن فوز فرنسوا هولاند. كان خطابه الأخير مؤثرا، بعكس كل ما سبق. كان الملك عبد الله بن عبد العزيز أول حاكم يقوم بزيارة ساركوزي بعد انتخابه. جلس الرئيس الجديد أمام الضيف الجليل واضعا ساقا على ساق. كانت تلك أكبر مخالفة لأدبيات الإليزيه في ذاكرتي. بدا الرجل مضحكا وقليل اللياقة، في بلد اخترع علم «الإتيكيت».