الموت الآخر للبائع الجوال

TT

بعد أكثر من مائة سنة، بدأ أقدم قطار في باريس يسير بلا سائق. يقطع القطار عشرات الكيلومترات، جيئة وذهابا، من شرق باريس إلى غربها. يتوقف في عشرات المحطات. يصعد ركاب. يجلسون في مقصورة السائق الغائب، وهم في ذهول: ماذا لو واجه القطار أمامه في السكة إنسانا شاردا؟ قطارا آخر؟ هل يتوقف؟ أبدا.

نحن نسير إلى حتفنا عندما نسلم أنفسنا إلى هذه الآلة الصماء التي صنعناها. وللتقنية التي تحسن يوما بعد يوم في أدائها. لتتفوق علينا في ذكائها.

أنا من عشاق القطارات. ما زلت أحن إلى قطار باريس المتقاعد. إلى مقاعده الخشبية. إلى هزات عجلاته الحديدية. إلى أنين الصدأ المتآكل فيها. ما زلت أركب قطارات الضواحي إلى حيث لا أعرف. أتأمل الخضرة في انحسارها المفجع أمام التقنية. أنزل في مدن وقرى لم أرها. ولا أعرفها من قبل. لماذا؟ لمجرد أن القطار يقوده إنسان. سائق.

«قربت غريب. وبعدت قريب. ما تقول، يا وابور، رايح على فين؟». راح سي عبد الوهاب. وتركنا نحن نلوك المرارة مع هذه الآلة. فقد سرقت عمل الملايين. صنعت إنسانا آليا يحكمنا. يسوقنا، وهو بلا حياة. بلا روح!

إننا نفقد البراءة مع هذه الآلة المتوحشة. باتت تحرك أناسا آليين أمامنا: مقدمي برامج. فنانين. فنانات. رجال سياسة. نساء جميلات. أنيقات. يرقصن. يغنين. بلا صوت! مع موسيقى صارخة. ضاربة. بلا كلمات حلوة. يتقاضين هن والأناس المصقولون الذين يقدمونهن مئات الملايين منا. نحن أصحاب الجيوب الفارغة.

لم يعد طه حسين أنموذجا مثاليا للمعرفة والثقافة يقتدى. ولا حتى عبد الوهاب مغنيا. بل ولا حتى عادل إمام الذي نعاقبه اليوم بالسجن والغرامة، لأنه سخر يوما من «رجل الإرهاب» الذي قتل. وذبح. وما زال، من أمته المسلمة، أكثر مما فعل بـ«الكفار».

همنا اليوم أن نربح «المليون». لا أن نربح المعرفة. إن أردنا، فقد بات العثور عليها سهلا. مريحا. فالآلة الجهنمية تختزنها لنا في تلافيف ذاكرتها. وليس في أدمغتنا. في قلوبنا. وروحنا.

إننا نفقد الكلام. الحوار مع هذه الآلة. لم نعد نفهم ماذا يقول هؤلاء الرجال الإلكترونيون؟ صنعت الآلة الإعلامية رجالا يحكمون العالم بومضات الإضاءة. بفلاشات «الكاميرا». أوباما. ساركوزي. ميت رومني. هولاند... وقبلهم بوش. ريغان. بل وأيضا رجال دين.

حول سحر «الكاميرا» البابا جون بول الثاني إلى مسيح معاصر جذب مئات ملايين الفقراء، في مجاهل أفريقيا وأميركا اللاتينية، من دون أن ينقذهم من الفقر. حتى هو مل عملية تصنيعه. رفض عرض رأسه المنحني، وظهره المقوس، على الجموع المؤمنة، داخل قفصه الزجاجي المتحرك. تمرد على الآلة الإعلامية الجبارة. رفض الذهاب إلى المستشفى، لإعادة صقله. تجديده. وسلم نفسه إلى موت هادئ مريح.

يسألني فرنسيون: هل حضرت حوار ساركوزي وهولاند؟ أجيب بحسرة وأسف: نعم. حضر المحاوران. وغابت الأفكار. القيم. المبادئ التي صنعت يوما الديغولية والاشتراكية. ساركوزي هذا «الروبوت» الآلي المتوتر. 24 ساعة يوميا في السياسة. أرى عروق وجهه وعنقه النافرة. تكاد تنفجر في غمرة صراع إلكتروني بلا روح.

حول ساركوزي رئيس فرنسا من ملك إمبراطوري. إلى ديناصور سياسي. يقرر. يسافر. يتوسط. يتشاجر. يذهب. يأتي، في ومضات إلكترونية مفاجئة تعجز العين عن متابعتها. هذا هو رجل السياسة الإلكتروني. لكن فرنسا ملته. فهي تريد أن تبحث عن روحها. عن تقاليدها. عن «ملكية» وهيبة رؤسائها الغابرين: ديغول. ميتران. شيراك.

هل يعيد فرانسوا هولاند الروح إلى فرنسا؟ هولاند يذكرها بالعاشق اللاتيني الذي ضحى من أجل امرأة لم يتزوجها. لم يتقلد منصبا يسد عليها الطريق. فمسحها ساركوزي «الروبوت» بلا رحمة، في طريقه إلى الرئاسة (2007) بعد فشل سيغولين رويال. عاد هولاند لبناء نفسه ومستقبله مع... امرأة أخرى. وداخل حزب اشتراكي حائر بين القديم والجديد.

بحثت في الحوار عن قيم الاشتراكية التي ألهمت يوما خيالي عن المساواة الإنسانية المفقودة. فأطل علي وجه «روبوت» اشتراكي مفترس. وجه دومينيك ستروس - كان. لولا اتهامه بهفوة جنسية في فندق نيويوركي باذخ، لكان هذا «المدعي» الاشتراكي يتربع اليوم على عرش جمهورية فرنسا.

هولاند اضطر إلى التكلم بلغة شبابية متمردة، رافضا التقشف لتلافي عجز الميزانية. تبنت اشتراكيته رأسمالية جون مينارد كينيز الاقتصادي العبقري الذي دعا إلى الإنفاق على التنمية. على تشغيل ملايين العاملين الذين سرقت منهم الآلة عملهم ورزقهم. فلا خوف من العجز المالي، طالما أن عجلة الإنتاج والعمل بدأت تدور.

انحاز عقل هذا التكنوقراط الإنجليزي إلى الروح، فسحقته الآلة الجبارة. قضى قبل أكثر من 60 سنة، بعصاه. ومظلته. وقبعته، تحت عجلات ترام حاول اللحاق به، ليصل باكرا إلى كازينو المال (البورصة).

لماذا يذكرني كينيز برائعة آرثر ميلر (موت البائع الجوال)؟ أبكى ميلر يوما ملايين الأميركيين على الأب الكهل. البائع الجوال الذي حاول التوفيق بين عمله الجاد، وطموحه العائلي إلى حياة أرغد. فجعلت التعقيدات اليومية الحياة أصعب منالا.

لا أحد يبكي اليوم على البائع الأميركي الجوال. ولا حتى أوباما. صوت له في الانتخابات. فخسر بيته. أسرته. رصيده. حياته. وغدا رهينة وديعة لدى المصارف الكبرى.

مات البائع الجوال محمد بوعزيزي منتحرا، احتجاجا. لأنه لم يستطع الانتقام لكرامته المهدورة من شرطية البلدية التي صادرت خضاره وتفاحاته التي كان يحاول بيعها على الرصيف. ثم يعود راضيا بالقليل إلى أسرة مستورة.

لو أن «الروبوت» الحاكم فكر قليلا. ربما لفتح سوقا شعبية لهؤلاء البائعين الجوالين. أذهب إلى سوق ضاحيتي الباريسية. لمجرد أن أشاهد التعامل الباسم بين البائعين الجوالين وزبائنهم المشترين، تحت الظلال الوارفة للخيمة التي نصبتها عمدة البلدية التي ارتقى ساركوزي منها يوما إلى رئاسة فرنسا.

يموت البائع الجوال مرة أخرى هذه الأيام. ملايين «البوزيديين» السوريين يجتاحون أرصفة وشوارع مدنهم الصغيرة المتآكلة. وقراهم المهملة. يحملون أطفالهم معهم. يموتون معا بصواريخ وقذائف «روبوت» آخر، من صنع آلة إعلامية جهنمية. سخرت سوريا خمسين سنة. ومسختها دولة متأخرة. شبه جائعة. عاطلة عن الأمل. والعمل.

الربيع العربي؟ كم هو خادع ومضلل هذا الربيع! إنه الزمن الرمادي الذي يموت فيه «البوعزيزيون» السوريون بالألوف. التهمة الدائمة: «التآمر» على نظام يتحرك كالروبوت. بلا قلب. بلا شعور. بلا تعاطف.

الرجل/ الروبوت ذو العنق الطويل يجلس في الشاشة. يتلقى التهاني بموت آخر للبائع الجوال. من روسيا. الصين. نجاد. خامنئي. حسن حزب الله. ثم يتهم عشرة آلاف «بوعزيزي» قتيل، بتهمة التآمر عليه مع السعودية و350 مليون بوعزيزي آخر.