هل يفهمنا «الخواجات» حقا؟

TT

يستولي عليك العجب، من سذاجة «بعض» الخبراء الغربيين، في أحوال منطقتنا.

يتعاملون مع تعقيدات مجتمعات الشرق الأوسط بكثير من الخفة و«التجريب»، ومن أكبر الأمثلة على ذلك في نظري هو الكاتب الأميركي توماس فريدمان.

هذا الكاتب النجم كان من أكبر أنصار «الربيع العربي»، وكتب المعلقات في مديحه، ودبج المقالات في الـ«نيويورك تايمز»، وزار مصر وجال في ميدان التحرير، واحتفى به الإعلام الثوري المصري، والغربي أيضا، وربما لو جمع ما كتبه من مقالات وصرح به من تعليقات حول «فهم» الربيع العربي لأخرج كتابا، وها هو اليوم يحاضر علينا ويلقي بالنصائح حول وجوب العودة لفكرة التنوير والتنمية قبل الديمقراطية.

كلام فريدمان الأول، الاحتفائي المطلق بملحمة وخلاصية وتمامية لحظة الربيع العربي، موجود ومحفوظ، وقد تغنى به الكثير من دراويش الربيع العربي من الكتاب والمثقفين العرب، وربما ما زال بعضهم يتغنى به على طريقة: «والحق ما شهدت به الأعداء». ولكن الأعداء (فريدمان.. يعني) عادوا فلفظوا ثمرة الربيع العربي لأنها صارت مرا وعلقما في حلوقهم بسبب بطلان توقعاتهم الساذجة السابقة منها، فالربيع العربي لم يكن مثل ربيع براغ أو الثورة البرتقالية الأوكرانية، بل جلب هذا الربيع الكثير من الجلابيب واللحى التي لا يحبها المستر فريدمان، المحلل والخبير بالشؤون العربية، كما يقدم في منطقتنا.

فريدمان قال مؤخرا إن: «الربيع العربي» بثورات بلا قادة، معبرا عن دهشته لظهور عدد قليل من القادة الجدد من هذه الثورات في عالم السياسة في هذا الجزء من العالم، مشيرا في مقال تناقلته الصحف والمواقع الإلكترونية - حسب نص (ميدل إيست أون لاين) - إلى «عمق الفجوة التي يجب أن تواجهها مجتمعات تلك الدول».

وحام حول فكرة «المستبد العادل المستنير»، التي نادى بها بعض الواقعيين العرب، من التنويريين - على قلتهم، خصوصا بعد صرعة الربيع العربي - نادوا بها عوض الركض خلف مغامرة الديمقراطية على الطريقة الغربية في مجتمعات مغموسة بالنزعات الدينية والعصبية، والجهل، حتى ولو غضب بعضنا من هذه الحقيقة المرة، وتم رجمهم بالحجارة من قبل المثقفين الإسلاميين، أو اليساريين، أو حتى الطارئين على المشهد لكنهم يحبون دغدغة الشارع، أي شارع.

فريدمان، تحدث عن فكرة الاستبداد «العاقل» بشكل أكثر عقلانية من كلامه في العام الماضي، عام الربيع العربي، فقال: «الاستبداد غير مرغوب فيه، لكن على الأقل بعض الدول الاستبدادية مثل كوريا الجنوبية وتايوان استخدم الحكام سلطاتهم في بناء اقتصاديات تقوم على التصدير، وقاموا بتعليم شعوبهم رجالا ونساء، فأسسوا طبقات وسطى عظمى قام قادتها في ما بعد بقيادة الانتقال إلى الديمقراطية».

ونقل فريدمان عن حسن فتاح، رئيس تحرير صحيفة «ذي ناشيونال» التي تصدر باللغة الإنجليزية في أبوظبي، قوله: «الصحوة العربية لم يتمخض عنها سوى بضعة قادة جدد، فإن الجيل الجديد من العائلات الحاكمة في الإمارات والمغرب والأردن، الذين لديهم الشرعية في تجميع الناس وقيادة التغيير، ربما يكونون أكثر القادة فاعلية في المنطقة حاليا».

وأشار فريدمان إلى الصراعات الطائفية بين السنة والشيعة في البحرين والعراق، والانقسام بين البدو في الأردن وفلسطين أو الانقسام المسيحي - المسلم في مصر، مؤكدا أن هذه الانقسامات الطائفية منعت ظهور القيادة.

الغريب أنه سيتم الاحتفاء بمقالة هذا المحلل «المجرب» فينا، ويتم ترديد كلامه وكأنه فتح الفتوح، رغم أنه سبق إليه أصوات من بني جلدتنا، تحدثوا بحرارة، وفهم أكبر بحكم الانتماء وصدق المعاناة، ولكن تم إما الهجوم عليهم، أو تجاهل ما قالوه، في سلوك ثقافي وإعلامي عربي رديء.

حسنا، لندع هذا القافز بين المواقف، فهو لن يضره شيء أن يجرب فينا من خلف البحار ويحظى بالتلميع من قبل البعض هنا، فيده ليست في النار.

لنأخذ مثلا آخر، أكثر جدية، فقبل أيام انعقد في واشنطن مؤتمر «واينبرغ» الذي يستضيفه معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، وفي جلسة ساخنة على هامش المؤتمر - كما نشرت صحيفة «الحياة» - أكد مدير المعهد (روبرت ساتلوف) أن كلا من الأردن وإسرائيل يرون ثلاثة احتمالات للأزمة في سوريا أسوأها هو «نزاع طويل يؤدي إلى حالة تطرف في البلاد»، بينما سأل المسؤول السابق في البيت الأبيض دنيس روس عن إمكانية «تعقيد أي انخراط أميركي عسكري طويل في سوريا» للمفاوضات الدولية حول الملف النووي الإيراني.

وقال ساتلوف الذي أدار جلسة الحوار إنه وبعد زيارته لكل من الأردن وإسرائيل وجد أن الجو الإقليمي خائف من دخول البلاد في نزاع طويل يؤدي إلى تطرف أكبر وعسكرة للأزمة.

ومن يقرأ طبيعة التعليقات المنشورة عن هذه الندوة، يدرك عمق العطب الذي وصل حتى إلى عقول «الصفوة» في أميركا تجاه فهم مشكلاتنا، باستثناءات طبعا، مثلا الدكتور فؤاد عجمي الذي كان واضحا وحاسما في أن سرعة التدخل الأميركي العسكري بتوفير المنطقة الآمنة والحماية الجوية هو الذي سيسرع انتهاء الأزمة ويقضي على أي بدائل سيئة يمكن أن تحدث في المستقبل، مثل تقسيم سوريا أو اندلاع حرب أهلية طائفية أو قيام إمارات جهادية، وهو الكابوس المرعب للغرب بسبب خوفه على إسرائيل بالدرجة الأولى، وخوفه بالمطلق من ازدهار النشاط الأصولي الجهادي.

تجد بالمقابل شخصا مثل ثيودور قطوف، السفير الأميركي السابق لدى سوريا، يعقد المسائل ويصعبها، بلغة تشبه لغة «المعتذرين» عن الأسد في أميركا، كما هو عنوان موضوع الغلاف للعدد الأخير من مجلة (المجلة).

مضحك أن يكون التحذير يخرج من العرب، وتحديدا بعض المؤسسات والأصوات القليلة في الخليج، منذ استفحال القتل الأسدي في سوريا، وأن ما يخشاه الغرب من وجود بديل إسلامي أصولي لنظام الأسد، واندلاع حرب أهلية إن تم تسليح المعارضة أو دعمها على الطريقة الليبية بل وحتى المصرية، سيحصل فعلا إن لم يتم دعم المعارضة السورية «الوطنية» الشاملة!

تخاذل العالم، المستفز، واختراع المهل المكشوفة لإطالة عمر نظام بشار الأسد، هي التي ستجعل الخيارات المتطرفة تنمو داخل صفوف المعارضة السورية، وستثبت بالملموس أن الكل يتآمر على الشعب السوري «السني» لأنه بالضبط هكذا: سني!

الإسراع في الخروج من هذه المسرحية الهزلية، مسرحية بعثة كوفي أنان التي يدعمها حليف الأسد، الدب الروسي، ومعه المعمم الفارسي الإيراني الشيعي، وأذياله في العراق ولبنان - هو الترياق الشافي من إمكانية نشوء السيناريو المرعب، سيناريو قيام «جهاد» في سوريا.

عجيب جدا هذا التخبط، يخشون من شيء وهم يساعدون بكل حماس على وجوده!

سبق أن دعوت في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي 2011 إلى تسليح المعارضة السورية فورا، هربا - بالضبط - من قيام خطاب طائفي عسكري في صفوف المعارضة، وقلت بالنص: «إن تسلحت المعارضة السورية وفاض صبرها، أو تسلل إليها مسلحون أصوليون، وما أكثرهم! فاللوم يقع على من جعل الأمور تصل إلى هذا الحد. ونرجو ونبتهل ألا تصل الأمور إلى هذا المنزلق الخطير».

واليوم نشاهد النقاش نفسه يتكرر، وبدهشة واندهاش لا مسوغ له، وكأن المشكلة السورية اكتشفت للتو، مثلما حصل مع صديقنا «العميق» توماس فريدمان، الذي اكتشف مؤخرا أن الديمقراطية وحماسة الشباب الثوري و«المدني» ليست هي الحل لمشكلات العالم العربي، فمشكلاته أعمق بكثير من أن يحلها هتاف في الميدان أو حماسة عابرة لكاتب غربي «سريع» من خلف البحار.

نحن أدرى بشعابنا.. شرط أن نقرر التشمير والسير في هذه الشعاب واستصلاحها

[email protected]