الملاذ الآمن.. غير آمن

TT

تعيش ليبيا الجديدة حالة ارتباك ومخاوف من أن تنتهي الأوضاع فيها إلى التجزئة على نحو ما حصل للسودان وما ربما سيحصل للعراق ولسوريا في حال سقوط النظام السوري واعتصم الرئيس بشَّار ورموز الحكم الذي يقوده باستثناء السُنة من هؤلاء، في سوريا العلوية ساحلا وجبلا، أو يغادر إلى حيث يعيش مع عائلته الصغرى في ملاذ آمن قد يكون إحدى ضواحي موسكو الواقفة معه بثبات حتى إشعار آخر، أو إحدى ضواحي كاراكاس مع ملاحظة أن الوضع الصحي لصديقه الرئيس هوغو شافيز لا يشجع على هذا الخيار أو إحدى ضواحي طهران التي ما زال قادة الجمهورية الإسلامية متمسكين بضرورة إعطائه الفرصة لتحقيق الخطوات الإصلاحية التي أعلن عنها.

وعندما يكون الحديث حول الملاذ الآمن، يتجدد السؤال حول لبنان ولماذا لا يكون الملاذ هو هذا البلد الذي ما زال ثلثه مع الرئيس بشَّار ويشاركه أقطاب هذا الثلث تصنيف الانتفاضة ضد النظام على أنها «عمليات إرهابية» وأن هؤلاء الألوف من مثقفين وسياسيين ومحامين ومهندسين وضباط في الجيش ومسؤولين سابقين في النظام وطلاب جامعات «هم مجموعات من الإرهابيين المنضوين تحت راية ميليشيات».

وهذا التساؤل كان حتى الأمس القريب مجرد اجتهادات، إلا أنه في ضوء قراءة مستجدة للموقف مبنية على معلومات، قد يتقدم على بقية الحديث حول الملاذات الآمنة. وخلاصة هذه المعلومات أن أهل النظام في إيران سيشجعون فكرة طالما تراودهم وتراود رموز القوى اللبنانية المرتبطة بهم وهي أنه في حال وصلت الأمور في سوريا إلى أنه لا مجال لإنقاذ النظام البشَّاري الحليف تبادر هذه القوى وفق خارطة طريق جاهزة سلفا إلى إحداث انقلاب في لبنان، أو بالأحرى استكمال وضْع الرئاسة الأولى بين هذه القوى وذلك على أساس أن الرئاستين الثانية والثالثة مضمونتان بدافع الاضطرار أو الاختيار لا فرق. وبموجب الخارطة هذه يكون الجنرال ميشال عون الحليف الماروني القوي هو الرئيس الانتقالي ضمن عملية تخريجة دستورية حاذقة وتصويت على هذه العملية وفوزها ولو بأكثرية الصوت الواحد على نحو ما جرى عند انتخاب سليمان فرنجية الجد أو بحكم الأمر الواقع الذي نجد فيه نوابا من الطيف السياسي الآخر يساقون إلى انتخاب المرشح الذي اختاره الرئيس (الراحل) حافظ الأسد ونعني به إلياس سركيس كما ساق سالفون للانتخاب و«نعم» القيادي الفلسطيني (الصاعقة) زهير محسن. وأما بالنسبة إلى المسألة الأمنية فإن تفوُّق القوة الضاربة «حزب الله» المعلن أصلا عنها تجعل الحركة الانقلابية تطلب من قائد الجيش أن يبقى «محايدا». وفي حال حدث هذا الانقلاب يصبح الطريق سالكا إلى الوطن الثاني لبنان أمام الرئيس بشَّار ومَن يصطحب وعلى أساس أنه يخوض لاحقا من «لبنانه» معركة استعادة نظام لم يكن التعامل من جانبه مع الذي حدث في مستوى الحنكة والحكمة.

واستكمالا لهذا الذي نشير إليه يجوز الافتراض أن إحاطة الإدارة الأميركية من جانب «اللوبي الأميركي» في لبنان بزيارة يقوم بها الدكتور محمد رضا رحيمي إلى لبنان أو إحاطة الرئاسة الإيرانية من جانب «اللوبي الإيراني» الممسك بالخارجية وغيرها من المفاصل ذات الأهمية في مؤسسات أمنية بزيارة يقوم بها جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، هي التي جعلت زيارة الاثنين رحيمي وفيلتمان تتم في وقت واحد وكما لو أنها مطاردة من النوع الذي يتفنن في تجسيدها صنَّاع الرسوم المتحركة.

وقد يجوز كذلك الافتراض أن فكرة الانقلاب كما أوجزناها هي الدافع الأساسي من جانب رحيمي ليطمئن على الخطة الموضوعة، ومن جانب فيلتمان لتهيئة أقطاب «اللوبي الأميركي» إلى ما هو مطلوب منهم لمواجهة الخطة.. وخصوصا إزاء ما يتصل «لبنان الملاذ الآمن» للرئيس بشَّار وأركان نظامه، ذلك أنه في حال حصل ذلك فإن الذي سيحصل في سوريا التي تريدها أميركا والاتحاد الأوروبي ودول الخليج والدول العربية المتعاطفة مع الانتفاضة السورية وأبرزها تونس في العلن والأردن من وراء الستار، لن يصمد وهنا تصبح الحرب الأهلية واردة ويصبح لبنان المقلوب هو المغذي والمزوِّد والمستشفى والمرفأ والمطار للانتفاضة المضادة التي قد نجد الابن الأسدي الآخر ماهر هو المتصدي لأن الموقف يتطلب قسوة أكثر بكثير من قسوة شقيقه الرئيس بشَّار.

يحدث ذلك أو إنه غير قابل للحدوث؟ الإجابة هي أنه ما دامت التصرفات غير العاقلة هي السائدة والحكمة غير قائمة والرأفة بمن يعترض لا مجال لها والتظاهر مرفوض وكذلك الاعتصام مع أنه في مصر مسموح من جنرالات المجلس العسكري رغم أنه مكروه، فإن ما هو مستبعَد الحدوث يصبح ممكنا وفي أي لحظة لغياب الوعي تماما.

وبالعودة إلى مسألة الملاذ الآمن نجد أنفسنا هنا نستنتج أن الملاذ يكون آمنا في حال كان من سيطلبه نظيف الكف وليس في عنقه أرواح صغار وكبار ولا اغتصاب نساء ولا تدمير بيوت الناس وأحيانا بعض بيوت الله. كما ليس في ذاكرته أرقام حسابات سرية متصلة بصفقات مليارية قائمة على الإفساد والفساد. أما عدا ذلك فإن الملاذ لا يعود آمنا على الإطلاق. أليس هذا ما حدث للرئيس أديب الشيشكلي في أقصى الملاذات (أميركا الجنوبية). وأليس هذا ما حدث لرجل السياسة والأعمال أشرف مروان في قلب لندن. وأليس هذا ما حدث قبل أيام للخبير النفطي الأكاديمي شكري غانم أحد أهم الوزراء غير الأمنيين في عهد العقيد معمر القذافي والذي كان يمسك بأهم ملفات الجماهيرية وهو ملف النفط. فقد اعتقد الرجل إن انفصاله عن النظام وتأييده للانتفاضة بعد ثلاثة أشهر من بدئها يشكل حصانة له من أجل إقامة هادئة في الملاذ الأكثر أمانا وهو فيينا حيث الروائع الكلاسيكية تشنف آذان الجميع حيثما ساروا، لكن المسكين أُنهي على ما يجوز الاعتقاد، وليس انتهى، غريقا في مياه نهر الدانوب وهو بكامل ثيابه مما يعني أن الرجل تلقى ضربة خفيفة على الظهر عند الشاطئ رمته في لجة مياه نهر الحلم الجميل لكل موسيقار يطمح إلى وضْع سيمفونية خالدة تُدخل السعادة إلى قلوب محزونة ونفوس مكتئبة.

وهذه النهاية المأساوية التي لقيها شكري غانم وأُعلن رسميا عنها يوم الأربعاء 2 أبريل (نيسان) 2012 تجعلنا نستحضر واقعة مماثلة حدثت يوم السبت 27 أبريل 1996 عندما أُذيع أنه تم العثور على الزورق الصغير الذي يملكه وليم كولبي المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية منقلبا في مياه نهر «بوتوماك» أحد الأنهار في ولاية «ماريلاند» واعتبار الرجل مفقودا ثم الإعلان بعد ذلك أنه تم العثور على جثته بعد عشرة أيام في أحد روافد النهر على بعد 64 كيلومترا إلى الجنوب من العاصمة واشنطن وأن زوجته تعرفت على الجثة. وكلاهما وليم كولبي وشكري غانم يملكان من الأسرار ما تجعل الاثنين في ملاذهما الآمن عرضة للنهاية المأساوية. عائلة شكري غانم - وبالذات ابنتاه - تبكيه في الشقة التي اختارها في فيينا ليقضي فيها مع العائلة حياة هانئة لا صخب فيها ولا ضغوط. وأرملة كولبي استسلمت للأقدار. أما الأسرار فلم تجرفها مياه «الدانوب» ولا مياه «بوتوماك».

يا لسوء حظ من تضعه الظروف في مثل منصبيهما أو في المنصب ألأول وكان لا يقتنع بأنها ما دامت لغيره حتى تدوم له. ولذا عليه أن يخاف ربه فيحترم بالتالي شعب ويحرص على الوطن.