اللقش الحلبي!

TT

اللقش الحلبي هو الوصف الشعبي الدارج جدا لشرح اللهجة الحلبية المميزة عن غيرها للغريب. ويبدو أن هذا الأمر، أي «اللقش»، ينطبق في حلب على مسائل أخرى غير الكلام واللهجة. فمن المعروف لكل متابعي أحداث الثورة السورية العظيمة أنه كانت هناك حالة من الاستغراب والتعجب بل وحتى الذهول من الموقف «الممانع» و«الصامت» لحلب وأهلها في الانخراط بالكامل مع الثورة وأحداثها، وأنهم كانوا «منتفعين» ويخشون على مصالحهم وسيتحملون ظلم النظام إلى أقصى درجة بل وتأييده علنا في سبيل إبقاء الوضع كما هو عليه دون تغيير، وتحمّل أهل حلب موجات من التشكيك وسوء الظن بحقهم من الآخرين في سوريا، وأدرك النظام أهمية «حلب» - قلب الاقتصاد السوري ورمانة الرأسمالية القديمة فيه، وحرص على توفير كل وسائل الأمان وتسهيل شؤون الحياة لمجتمع الأعمال، شملت تيسيرات في كل الأذون والتصاريح المطلوبة من الدوائر الحكومية لتنفيذ المشاريع والمصانع بشتى أشكالها حتى ولو كان المطلوب مخالفا للأنظمة. في الكثير من الأحيان كان النظام ببساطة يساهم في «رشوة» أهل حلب وشراء ولائهم وسكوتهم عن تأييد الثورة التي عمت البلاد بشكل هائل وملحوظ.

ولكن أهل حلب جزء أصيل من الشعب السوري، ومهما طال موعد انضمامها فهم قادمون، وهذا تحديدا ما حدث في الأيام الأخيرة من الثورة السورية، التي وصلت بشكل مؤكد إلى حلب بعد أن ظلت لفترة غير بسيطة في ريفها وفي محيط مدينتها الجامعية التي تضم طلبة من مختلف أنحاء القطر السوري كله، إضافة لبعض المظاهرات في شوارع محدودة داخل المدينة. أما الآن فالانشقاقات العسكرية تحصل داخل المؤسسة العسكرية بحلب؛ التجار والصناع انضموا للثورة، وأثرياء وزراع وفلاحون ومتوسطو الدخل بالمدينة انقلبوا على النظام، ولم يعد يجدي هجوم النظام المقنن على أحياء حلب المختلفة بأرتال الجند من الشبيحة الذين يبلغ عددهم الثلاثمائة أحيانا في كل هجمة وهم مدججون بالسلاح والعتاد، بل تستمر المظاهرات ليلا ونهارا، ترفع فيها أعلام الاستقلال ولوحات تطالب برحيل بشار الأسد وسقوط نظامه بشكل واضح وصريح لا يقبل التأويل.

حتى المساجد والجوامع التي وظفت لصالح النظام عن طريق مفتي الجمهورية القادم هو نفسه من قلب حلب، خرجت عن طوع النظام وانضم الكثير منها للثورة، ولذلك يأتي رد فعل النظام بشكل هستيري، فحلب هي آخر وأهم معاقل النظام عموما، وبشار الأسد تحديدا له هو شخصيا «عمق» في هذه المدينة، فوالد زوجته من مدينة حلب، واستثمر علاقات مع رجال أعمال مختلفين في حلب عبر سنين حكمه، وكان يقضي وقتا بالمدينة على عكس والده الذي قاطعها تماما، ولكن حلب وأهلها انتفضوا تماما، وحتى أقلياتها من أكراد، وتحديدا مسيحيوها من أهل حي العزيزية العريق لم يعودوا قادرين على تأييد الطاغية ونظامه كما كانوا يفعلون في أول الأمر، والجالية الأرمنية ذات الثقل المميز والاقتصادي القديم تتهامس في مجالسها الخاصة بأن عليها الاستعداد والقبول العملي لمرحلة ما بعد نظام بشار الأسد وسقوطه لأن ذلك بات حقيقة يجب أن يتعاملوا معها بجدية.. كل ذلك يحصل وسط رد هزلي من بشار الأسد ونظامه بأن أطلق انتخابات برلمانية لمجلس شعب جديد ليكون بديلا عن المجلس الهزلي الذي تحول إلى أداة لتسليط مفهوم التوريث وجاء ببشار الابن وريثا لحافظ الأب في مشهد كوميدي ساخر بات مضربا للأمثال وملهما للنكات، والمشهد الكاريكاتيري متواصل بين إعلام رسمي «قابضها جد» يحاول إقناع الناس في سوريا والعالم أن هذه الانتخابات جدية وأن مجلس الشعب القادم سيكون له قيمة.

يحدث كل ذلك وسط أكوام الجثث المتساقطة يوميا في كل المدن السورية وحطام الركام لأحياء تحولت إلى مدن أشباح بامتياز.. إنها نفحات الموت التي يواصل بثها حزب البعث وزبانيته حتى تزهق الروح منها وقد أزف هذا الموعد لأنه لم يعد في سوريا موضع لم ينتفض ضد الرئيس ونظامه، وهذا الإجماع لن يظهر في نتائج الانتخابات المطبوخة!

[email protected]