المتراجعون في «الخريف العربي»!

TT

حين انطلقت الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، لفّ المثقفين والكتاب، حالة من الذهول والاندهاش في بداية الأمر، حيث لم يكونوا يتوقعون أو يتصورون ما جرى، ولكن حين بدا أن لحظة التغيير قد تحققت، غيّر أولئك المثقفون رأيهم، وأعلنوا عن دعمهم لثورة الشوارع، بل ذهب البعض إلى التنظير والمشاركة في مظاهرات لا قائد لها، وانتفاضات لا تمتلك أي مشروع سياسي سوى المطالبة برحيل النظام، ولا يجمعها أي قيم أو مطالب واضحة للنموذج الذي ينبغي الانتقال إليه. البرلماني المصري د. عمرو حمزاوي قال في حوار له مع فضائية الـ«بي بي سي» (العربية) قبل الثورة المصرية بأيام، بأن ما حدث في تونس هو نتيجة غضب لطبقة تونسية متوسطة وعلمانية تضامن معها الجيش، واستبعد في ذلك اللقاء أن يثور المصريون ضد نظام الرئيس المصري السابق حسني مبارك؛ لأن المجتمع المصري مختلف عن نظيره التونسي. روائي مثل علاء الأسواني نشر قبل الثورة بعام كتابا بعنوان «لماذا لا يثور المصريون؟» (دار الشروق: 2010)، جادل فيه أن النخبة المصرية فاسدة وغير ميالة للمغامرة، وأنها استكانت منذ عقود إلى قبول الواقع على الرغم من مساوئه وتناقضاته.

بعد «الثورة» تغيرت تلك اللغة، حيث اتجه الأشخاص أنفسهم للتنظير لثورة كانوا يعتقدون في يوم من الأيام أنها لن تقع. كتاب آخرون - عربا وأجانب - ملأوا الساحة بتصريحات، ومقالات، وكتب تدعي معرفة الواقع في بلدان «الربيع العربي»، مقدمة سيلا من التبريرات والتفسيرات لشرح التحولات الجارية، وطارحة رؤيتها للمرحلة الانتقالية، ولكن لا أحد من هؤلاء أقر أو اعترف بخطئه، أو قصور رؤيته للواقع. طبعا، كانت هناك كتابات قليلة في هذه الجريدة تحذر من خطورة ما يجري، وعدم الانسياق وراء وهم الشارع، وشعارات الجموع الغاضبة، ولكن تلك الأصوات حجبها اندفاع الأصوات المباركة عربيا وغربيا، لما اعتبروه يقظة أو انبعاثا جديدا لشعوب المنطقة.

المثير للانتباه أن أولئك المثقفين والكتاب الذي رحبوا، بل تبنى بعضهم تلك الانتفاضات، بدأوا في التراجع عن مواقفهم، واختار بعضهم طريقة النقد والتشكيك في مستقبل تلك الثورات، ولكن قليل منهم من اعترف، أو عبّر عن قصور رؤيته، متناسين عن عمد دورهم في الترويج السطحي والحماسي للشارع الثائر. اليوم، يكتب البعض صراحة - أو بطريقة غير مباشرة - عن مخاوفهم من نتائج التحولات الجارية. السبب الرئيسي في ذلك هو أن نتائج الانتخابات الديمقراطية التي بشروا بها، قد جاءت بأحزاب وقوى دينية أبعد ما تكون عن قيم الديمقراطية، والمدنية، وحقوق الإنسان، مما يعكس موقفا ذرائعيا لتلك النخب.

الآن بات بإمكانك رصد تصريحات وكتابات متشككة في نتائج «الربيع العربي» على مستقبل الحريات والحقوق في تلك البلدان. أي أن دعاة «المجتمع المدني» والحقوقيين باتوا يدركون أن المبادئ والأحلام التي تعلقوا بها، قد تحولت إلى كابوس مرعب بسبب صعود الإسلاميين المتشددين إلى سدة الحكم.

هذا المشهد ليس جديدا، فدعاة الاستقلال في الأربعينات بشروا بحلم الدولة الوطنية، ثم لم يلبث الكثير منهم أن هرب أو وقع في أسر الإقامة الجبرية، ناهيك عن الاغتيالات والمؤامرات. أيضا، دعاة القومية ومن بعدهم البعثيون في الستينات والسبعينات حولوا دولهم الناشئة إلى نظم شمولية، وضحى رفاق الأمس ببعضهم بعضا بعد أن همشوا المؤسسات، وعبثوا بالدساتير. حتى الإسلاميون اقتتلوا فيما بينهم، وكفر بعضهم بعضا حول الإمارة، والمغانم الدنيوية، وتجارب إيران، والجزائر، والسودان، واليمن ما تزال حاضرة. اليوم، يواجه دعاة المجتمع المدني، ومن يطلقون على أنفسهم أسماء من قبيل «ناشط حقوقي» أو «إصلاحي»، المصير ذاته، فهم يقدمون خطابا ثوريا/ انقلابيا يبرر العصيان المدني، ويحرض على الاحتجاجات العنيفة، حتى وإن عطلت مصالح البلاد والعباد، وحتى بعد أن قالت صناديق الاقتراع قولتها، ما يزال البعض يحاول تغيير الواقع بالقوة تحت ذريعة المظاهرات السلمية.

هنا لا بد أن نستعيد شيئا من التاريخ، فقبل عشرين عاما مضت، تبنى «اليسار الليبرالي» (وهو يضم خليطا من اليساريين والإسلاميين المتحولين) في العالم العربي، خطاب «المجتمع المدني» بصورة دوغمائية، وبشروا بشعارات مطلقة، مثل الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وأضحوا بذلك طرفا جديدا في معادلة المعارضة والسلطة. هذا التيار تحول مع الوقت أسيرا لرؤية «مثالية» منفصلة عن الواقع، وحينما نقول «مثالية» نعني أنها لم تكن متصلة بالواقع المعيشي والسياسي لتلك البلدان التي طرحت فيها، بل تبدو أقرب إلى خطاب مستورد - ولا عيب في ذلك - منه إلى خطاب أصلي.

تأمل مثلا في شعارات شباب التحرير والمثقفين المشاركين في ثورتهم تجد أنها أقرب إلى هتافات تيار «occupy wall street» في نيويورك، أو احتجاجات حي المال في لندن، منها إلى أحياء العباسية، أو إمبابة، ولعل هذا ما يفسر كيف خسر شباب التحرير بشعاراتهم الغربية لعبة السياسة، وكيف كسبها آخرون مثل حزب النور السلفي؛ لأن الأخير أقرب إلى الواقع الاجتماعي والديني. ولهذا ليس بعيدا أن يتعرض هؤلاء للتهميش والإقصاء في المرحلة المقبلة، لأنهم يملكون وعيا، أو خبرة فيما يتعلق بإدارة الدولة واقتصادها. الذي يدعو للتظاهر كل يوم، حتى تحقق الثورة مطالبها، يعيشون في الوهم، وهم في نظر قطاع واسع من مواطنيهم أشخاص غير معنيين بالأوضاع الاقتصادية اليومية لملايين الناس.

أمام هذا المشهد يمكننا تسجيل ملاحظتين أساسيتين حول ظاهرة التراجع: الملاحظة الأولى: أن المثقفين والكتاب مروا بما يسميه بعض علماء الاجتماعي السياسي «revolutionary romanticism»، أي الرومانسية الثورية، وهي حالة من التمجيد العاطفي للتحول الراديكالي، ثم حين تظهر بوادر الفشل والتخبط يتحول هؤلاء إلى حالة الإنكار، واتهام النظام السابق (الفلول) بالسعي لإجهاض الثورة، ولكن حين تتمكن قوى ثورية أخرى من تحقيق مكاسب أو الاستئثار بالسلطة، يتحول هؤلاء إلى حالة التبرير والتبرؤ من فشل الثورة، تحت ذريعة أنه تم اختطافها من القوى والتيارات الراديكالية، سواء كانت يسارية أو إسلامية.

الملاحظة الثانية حول ظاهرة التراجع تتمثل في لجوء النخب السياسية والثقافية في بداية الثورة، إلى التقليل من قيمة الخسائر البشرية والمادية الناتجة عن فوضى التغيير، متذرعين بأن الثورات لا بد لها من تضحيات، وهي ناجحة في النهاية مهما استمرت فترة التغيير - أو الفوضى - ولكن تجد تلك النخب ذاتها بعد مرور وقت قصير، متذمرة ومتبرئة من تلك الخسائر، متى ما أحست أن النتائج ليست في صالحها، فعندئذ تبرر تراجعها عن دعم الثورة بحجة أن الثورة قد باتت تطال أناسا أبرياء، أو أنها تحولت نحو العنف والانتقام حتى من المشاركين فيها، ولعل هذا بارز في موقف الثوريين من قوانين الطوارئ، ومن استخدام القوة المفرطة تجاه المظاهرات والعصيان المدني من قبل تلك الشخصيات أو الأحزاب التي وصلت إلى سدة السلطة.

ليس الغرض هنا نقد الثورة أو تقريع الثوريين، بل هي دعوة إلى إعادة تصحيح المسار. لقد كان نظاما مبارك وبن علي فاسدين، ومليئين بشتى السلبيات، ولكن كانت هناك جوانب إيجابية، ومشاريع جيدة، بل ومؤسسات، حتى مع ضعفها، إلا أنها كانت تعمل. لأجل ذلك كان من الضروري بعد رحيل الرئيس، أن ينتقل البلد تدريجيا نحو التحول الديمقراطي من دون تعطيل عجلة الاقتصاد أو الإضرار بمؤسسات الدولة وهيبتها. محاولة القيام بتغيير راديكالي في مجتمعات غير مؤهلة تقود إلى نتائج كارثية. الحالة المصرية واضحة، فتعليق العمل بالدستور قاد القوى الثورية إلى الصراع على حساب الاستقرار الأمني والاقتصادي للمواطنين.

ماذا تصنع بدستور سويسري أو اسكندنافي في دولة متعثرة مثل الصومال أو أفغانستان؟ وما الذي يتغير لو فرضت النظام القضائي الأميركي في بلد فقير ومعدم مثل اليمن أو السودان؟

لا شيء، الإنسان هو من يعطي القوانين أو الأنظمة قيمتها وليس العكس. قد تتمكن من عزل الرئيس ورجاله وتسمي ذلك ثورة، وقد تتمكن من تغيير الدستور والأنظمة، ولكنك لن تنجح في تغيير حياة الناس إلى الأفضل، إذا كان ذلك على حساب أمنهم ومعاشهم.

لقد كتب مثل هذا الكلام في بداية الانتفاضات، ولكن القليل كان يقرأ.