ثورة أوروبا وثورات العرب

TT

لو لم تكن في أوروبا ديمقراطيات، لكانت فيها اليوم ثورات مثل العالم العربي، بل ربما أشد شراسة. فالزلازل السياسية التي تشهدها أوروبا هذه الأيام من خلال نتائج الانتخابات التي جرت في عدة دول، أو الظواهر الاجتماعية التي أفرزتها الأزمة الاقتصادية، هي تعبير عن حركة احتجاج قوية ضد ما يراه الكثيرون فشل الطبقة السياسية، وجشع المصارف، وانحراف السياسات الاقتصادية. الناخبون قالوا كلمتهم وعاقبوا الأحزاب السياسية الحاكمة على الأزمة الاقتصادية والمعاناة التي خلفتها، معلنين رفضهم لسياسات التقشف المالي التي اتبعتها الحكومات للخروج من أزمة الديون والمصارف، وهي سياسات خلفت ملايين العاطلين عن العمل، وأجيالا من الشباب الفاقدين للأمل، والأسر العاجزة عن مواجهة متطلبات الحياة اليومية وفواتير الحياة العصرية.

الأرقام والإحصائيات تبدو مخيفة وتنذر بالمزيد من الأزمات والقلاقل. نسبة البطالة بين الشباب في إسبانيا 46 في المائة، وفي اليونان 43 في المائة، وفي آيرلندا 32 في المائة، وفي إيطاليا 28 في المائة، وفي البرتغال 27 في المائة، وفي فرنسا 24 في المائة، وفي بريطانيا 21 في المائة. ألمانيا والنمسا تبدوان الاستثناء في أوروبا، حيث تقدر نسبة البطالة بين الشباب الألمان دون سن الخامسة والعشرين بنحو 9 في المائة، بينما تبلغ في النمسا 8 في المائة. أما خارج أوروبا فتبلغ نسبة بطالة الشباب في أميركا 18 في المائة، بينما في العالم العربي تقدر في المتوسط بنحو 30 في المائة، لكنها تتأرجح بشدة بين دولة وأخرى. نسبة بطالة الشباب في العالم العربي تعتبر من بين الأعلى في العالم؛ إذا وضعنا في الاعتبار أن 50 في المائة من سكان العالم العربي تقل أعمارهم عن 24 سنة، وهي ثاني أعلى نسبة في العالم بعد أفريقيا جنوب الصحراء. أزمة هذا الجيل الضائع على مستوى العالم جعلت الكثير من الخبراء والمختصين يحذرون من أن آثارها ستمتد لعقود، ولن تكون قاصرة على الشباب، بل ستؤثر على المجتمعات المعنية كلها، وربما تؤدي إلى قلاقل اجتماعية وصعود تيارات التطرف.

وإذا كان العالم العربي شهد ثورات في طليعتها الشباب بسبب عوامل سياسية واقتصادية، فإن الغرب شهد أيضا نموا في حركات الاحتجاج، إذ برزت حركات مثل «احتلوا وول استريت» سرعان ما امتدت إلى أكثر من سبعين بلدا حول العالم، مؤشرة على تصاعد الغضب إزاء النخب السياسية والاقتصادية، وتنامي الإحباط من فشل الحلول للأزمة المالية والاقتصادية العالمية. رفع المحتجون في هذه الحركات شعارات مثل «نحن الـ99 في المائة»، وذلك في إشارة إلى أن واحدا في المائة من أثرياء العالم يسيطرون على 44 في المائة من ثرواته، بينما ترتفع نسبة الفقر والبطالة حتى في الدول المتقدمة.

نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة جاءت استمرارا لحركة الاحتجاج العالمية التي أسقطت حكومات، وستسقط أخرى حتما. السياسيون الأوروبيون تسابقوا ليقولوا لشعوبهم الغاضبة: سمعنا وفهمنا، لكنهم لم يضطروا للهروب مثل زين العابدين بن علي لأنهم جاءوا بالانتخاب ويذهبون عبر صناديق الاقتراع. الرئيس الفرنسي المنتخب فرنسوا هولاند خاطب أنصاره بعد إعلان الفوز قائلا: «لقد سمعتكم، لقد سمعت إرادتكم في التغيير.. شكرا لأنكم سمحتم لي أن أصبح رئيسا للجمهورية». كذلك كتب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون مقالا في صحيفة «الديلي تلغراف» بعد أن تلقى حزبا حكومته صفعة قوية في الانتخابات البلدية الأخيرة ليقول للناخبين: «وصلتني الرسالة بقوة ووضوح»، ومثله تحدث ساسة آخرون مستشعرين غضبة شعوبهم وعدم رضاهم عن الأزمة الاقتصادية التي طالت، والمعاناة المتفاقمة التي خلفتها.

لكن الخروج من الأزمة لن يكون بمجرد الإعلان عن وصول الرسالة، بل بتطبيق سياسات مختلفة واعتماد نهج جديد. فأوروبا تواجه اليوم خيارا صعبا بين نموذجين متصارعين حول كيفية الخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية، الأول يتمثل في تيار تقوده المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ويعتمد على التقشف وضبط الإنفاق لمواجهة العجز في الميزانيات وأزمة الديون، والثاني الذي يمثله الرئيس الفرنسي المنتخب هولاند يدعو إلى إعطاء أولوية للإنفاق على النمو لتحريك الاقتصاد وإيجاد فرص عمل والدفاع عن الرخاء الاجتماعي. والواقع أن المعركة لن تكون محصورة بين أكبر قوتين اقتصاديتين في أوروبا، وهما ألمانيا وفرنسا، بل ستكون لها امتداداتها وتبعاتها حول العالم في ظل صراع الأفكار للخروج من أسوأ أزمة مالية واقتصادية في التاريخ الحديث. وربما لهذا السبب قال فرنسوا هولاند في خطاب النصر، مخاطبا الناخبين الفرنسيين الذين حملوه بأصواتهم إلى الإليزيه: «أنتم حركة صاعدة في كل أوروبا، وربما في العالم، لحمل تطلعاتنا ومطالبنا بالتغيير»، بينما قرأت الصحف الألمانية نتائج انتخابات الجار الفرنسي على أنها هزيمة كبرى لميركل التي دعمت حليفها في نهج التقشف، ساركوزي، إلى حد أنها رفضت مقابلة هولاند خلال الحملة الانتخابية.

الصورة تبدو قاتمة ومعقدة، خصوصا بالنسبة للجيل الضائع من الشباب، والحلول ليست سهلة أو سريعة، لذلك يتوقع الكثيرون أن تستمر الثورات الانتخابية في أوروبا وفي دول أخرى حول العالم، بينما يستمر البحث عن مخارج من الأزمة المالية والاقتصادية وعن حلول للنظام الرأسمالي الذي يبدو في مأزق. الفارق بين أوروبا والعالم العربي هو أن الديمقراطيات والانتخابات تتيح للناس التعبير عن غضبهم والتأثير على السياسات أو تغيير الحكومات عن طريق صناديق الاقتراع، أما في معظم أرجاء العالم العربي فإن الاحتقان الشديد بسبب مزيج العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتراكمة لا يجد متنفسا حقيقيا يعطي الناس أملا في التغيير إلا من خلال الهبات والثورات، مثل تلك التي تشهدها المنطقة منذ أكثر من عام، والتي يتوقع أن تتكرر حتى وإن تعثرت إلى حين، ما دام أن الأسباب وراءها باقية من دون حلول، أو أمل للأجيال الضائعة أو المهمشة.

[email protected]