الثورات العربية: من بناء المهن لبناء الأوطان

TT

لعل من بين القضايا المهمة التي أفرزتها الثورات والتحولات العربية غير المسبوقة وآثارها بعيدة المدى، ويجدر الاهتمام المتزايد بها، قضية بناء الأوطان. ويعد الاستثمار في الإنسان وتنميته، ضمن إطار قيمنا وهويتنا وتراثنا الحضاري المجيد، وبما يحفظ له إنسانيته وكرامته، هو الضمان الحقيقي والفعال والدائم للاستقرار والاستمرار في بناء حاضر ومستقبل الأوطان. ولكن كيف يمكن تفعيل دور الإنسان، لإحداث التغيير في المجتمع وبناء الأوطان؟

لا يمكن أن يكون للإنسان دور فعال في المجتمع، إلا في وجود شخصية متكاملة ومتوازنة وفعالة ومؤثرة تساير الواقع، وتم إعدادها بجميع الجوانب الثقافية والاجتماعية والروحية والمهنية والصحية والسياسية، لتكون قادرة على أن تؤدي حق نفسها ومجتمعها نحو الأفضل في جميع جوانب الحياة. تطوير وإدارة الموارد البشرية، واستغلالها للنهوض بالمجتمعات، تعد من بين الجوانب بالغة الأهمية. ولعل السؤال المهم المطروح: كيف يمكن بناء إنسان بناءً سليما وتنميته، ليسهم في بناء المجتمع والنهوض به في جميع المجالات؟ وكيف يمكن استغلال البناء المهني للأفراد لبناء حاضر ومستقبل الأوطان؟ وكيف يمكن الانتقال من بناء النفس والأسرة والأهل والأقارب إلى بناء الوطن؟

هناك نظرة قاصرة لدى بعض الأفراد تقف عند حد بناء الذات والأسرة ومستقبل الأبناء والأقارب والتطلع الدائم نحو تحقيق والحفاظ على مصالحهم والذي قد يكون من دون وجه حق، الأمر الذي يضر بصالح ومصالح العباد والبلاد. وهذه النظرة القاصرة لا تصدر إلا عن خلل في شخصية هؤلاء الأفراد، خلل في منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية والتربوية والثقافية وغياب الوازع الديني والأخلاقي. الرؤية الصحيحة والسليمة في بناء الأوطان، تكمن في تنمية القدرات البشرية وبناء الأخلاق الحميدة للأفراد، وبناء أخلاقيات المهن، وأخلاقيات الانتماء، بما يحفظ للأوطان استمراريتها واستقرارها ونهضتها. المدخل الحقيقي للتخلص من مظاهر الفساد والظلم والقهر في الأوطان العربية، وإشاعة الممارسات السليمة في جميع جوانب الحياة، يكون في ضمان التمسك بالقيم والأخلاق الحميدة وأخلاقيات المهن وإعلانها وتفعيلها وعدم التجاوز عن أي مخالفات بشأنها، وهي قيم ومبادئ سامية مستمدة من عقيدتنا وثقافتنا وتراثنا.

بناء الأوطان يكون، بالالتزام بالأخلاقيات والقيم الحميدة وأخلاقيات المهن، والتي سوف تؤدي إلى أن نستبدل القيم والمظاهر السلبية مثل الوساطة والرشوة والتزوير واللامبالاة والتزويغ من العمل والكسل وإضاعة الوقت وأعمال البلطجة والتواكل وتعطيل مصالح المواطنين، وغيرها، بقيم وأخلاقيات حميدة إيجابية فعالة في النهوض بالأوطان مثل التسامح والانضباط والنظام واحترام أخلاقيات المهن وتشجيع واحترام الحوار والنقد البناء وتقدير قيمة إتقان العمل وتقدير الوقت، وغيرها، والتي هي جميعا أساس عقيدتنا وثقافتنا وتراثنا الحضاري العظيم.

عندما يكون هناك بناء متوازن في شخصيات الأفراد بجميع جوانبها الروحية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية والمهنية والثقافية، تتولد بيئة صالحة، ويكون هناك تغيير دائم نحو الأفضل في الأوطان العربية. وعندما تصبح الأخلاقيات والقيم نمطا سائدا في المجتمعات العربية، يكون هناك تجرد من المصالح والمنافع الشخصية وتجنب في توريث المناصب القيادية والأكاديمية، والبعد عن كافة أشكال المحاباة والمجاملات في أداء الأعمال، ليحل محلها اعتماد مبدأ تكافؤ الفرص وضمان النزاهة والأمانة والكفاءة في جميع مجالات المجتمع. فعلى سبيل المثال، سوف يتم ربط المناصب القيادية بالكفاءات المهنية والأخلاقيات العامة والمهنية، وسيكون هناك آليات فعالة للثواب والعقاب والمساءلة في جميع مؤسسات وجوانب المجتمع. ولن يكون هناك مخالفات أخلاقية في الجامعات، من قبيل الترقيات الجامعية لاعتبارات نفعية وشخصية، أو توريث للمناصب الأكاديمية أو سرقات علمية. إلى غير ذلك من مجالات المجتمع والوطن، الأمر الذي سيسهم في النهاية في تحسين وتطوير أداء الفرد والمجتمع، وبالتالي بناء الوطن بناء شاملا متكاملا في كافة مجالات الحياة، تتواصل فيه مسيرة الاستقرار والأمن والخير والعطاء. بناء وتنمية الأفراد والمهن، تنمية متكاملة متوازنة، هو الانطلاقة الحقيقية والفعالة نحو تنمية المجتمعات وبناء حاضر ومستقبل الأوطان العربية تنمية شاملة ترقى بها إلى مصاف المجتمعات والدول المتقدمة.