الهوية والعولمة والآيديولوجيا

TT

يبدو أن حديث الهوية يشغل من الناس، في مناطق مختلفة من المعمور، مكانا محوريا إن لم نقل إنها مكانة الصدارة. ذلك أن هنالك نوعا من العودة إلى خطاب الهوية على النحو الذي يكون الشأن فيه كذلك في كل مراحل الأزمة وفترات التحول التي تتميز بحدوث رجات عنيفة. ذلك هو الشأن في العديد من الدول التي كانت، إلى وقت قريب، تشكل بعضا من الاتحاد السوفياتي المتصدع، وذلك هو الأمر في فرنسا وفي ألمانيا وهولندا، والسؤال المتعلق بالهوية لا يزال الآن يطرح في عالمنا العربي الإسلامي.

هذا الذي نقول عنه إنه «الانتفاض» أو «الربيع العربي»، في جوانب عديدة منه ليس سوى إثارة لقضية الهوية وليس سوى تعبير عن أنواع من القلق والخوف عليها. يمكن القول، إجمالا، إن حديث الهوية يطفو على السطح ويعاود الظهور في كل الأحوال التي تستشعر الهوية خطرا أو جملة أخطار تحف بها أو تقدر أن هنالك ما يتهددها بالزوال والاندثار. ولا غرو أن أشد ما ترى فيه الهوية تهديدا لها هو ذلك النزوع نحو نحت نموذج ثقافي - وجودي واحد واعتباره المقياس الوحيد الممكن الذي يكون التوجه نحوه. وهذا الادعاء الأخير هو، فيما نقدر، السمة الأساس التي تميز خطاب العولمة.

العولمة نزوع نحو إقصاء الهويات الكثيرة، المتمايزة عن بعضها البعض، وتصيرها نموذجا واحدا تذوب فيه الفوارق والتمايزات وبالتالي تموت الهويات. وإذن فإن ما تسلم إليه العولمة هو، بالضرورة، رد فعل من الهويات يكون به الانكفاء على الذات. ومتى نظرنا إلى المسألة من جهة أخرى فإن في الإمكان القول إن العولمة (بما تحمله من دعاوى ضمنية حينا كثيرا، إذ تلوح بشعار النموذج الأوحد الممكن ثقافيا ووجوديا) تعمل على إذكاء خطاب الهوية وإيلائه مكان الصدارة والهيمنة على مشاعر الأفراد والقوميات التي تقدر أنها تتعرض لمقدمات الإبادة. في هذا الوضع من الشد والجذب (الهجوم من قبل العولمة بالتلويح بشعار النموذج الأوحد الذي يجب الأخذ به وهذا من جانب أول، والانكفاء على الذات والمبالغة في التغني بالخصوصيات المميزة من جانب ثان) تجد الآيديولوجيا مجالا للفعل فهي تستخدم من قبل الجهتين معا سلاحا خفيا ولغة ملغزة، مبطنة غير واضحة، وخطاب يبلغ درجات عليا من التجريد والغموض. وهكذا تغدو الحدود الثلاثة (الآيديولوجيا، الهوية، العولمة) مرتبطة بعضها بالبعض الآخر ضرورة.

لست أبتغي، مما سبق، أن أخوض في إشكالات نظرية ولست أريد الغوص في إشكالات نظرية محضة، ولكني أرى القول السابق توطئة ضرورية لطرح السؤال المؤرق التالي: ما الشأن بالنسبة للهوية العربية اليوم؟ ما الشأن فيها من حيث أن دعاوى النموذج الأوحد تتهددها نوعا من التهديد؟ يجب الانتباه إلى أن ما نقول عنه إنه الهوية العربية يخضع، من جهات المنطق والتاريخ والوجود لما يصح القول عنه إنه تحديد بالإيجاب، مثلما أنها تخضع، بموجب المنطق والتاريخ والوجود كذلك لما يصح نعته بالتحديد بالسلب. فأما التحديد بالإيجاب فهو حد موضوع ما من جهة مكوناته الذاتية. وبالنسبة لقضية الهوية العربية فإن هذه الأخيرة تحد من جهة اشتمالها على العربية لغة وثقافة تضرب في التاريخ بعيدة فهي تنحت نموذجا ثقافيا عربيا يستمد جذوره مما قبل الإسلام، ومن انتمائها للإسلام حضارة وليس دينا فحسب، فالانتماء للحضارة العربية الإسلامية مما لا يملك العربي المسيحي أن ينفك عنه ومما يقوله ويردده دوما حكماء العرب من الذين يدينون بغير الدين الإسلامي، بل ربما كان من المفكرين العرب المسيحيين تأكيد على هذه الصفة الأخيرة على نحو لا نجده عند المفكرين العرب المسلمين.

فالهوية العربية هي التي تكون عن الشعور بالاشتراك في المكونات الواحدة دون أن يكون الكل منتسبا إلى نفس الرقعة الجغرافية. إنها، على سبيل المثال ما كان يجعل الإنسان في الأندلس يشعر بقوة الرابطة التي تشده إلى الشعر والحكمة العربيين والحال أن مسافات هائلة تبعده عن الجزيرة العربية، والحال أنه يحيا في أجواء تختلف من حيث المناخ والمعطيات المحلية المباشرة عن الجزيرة. وهي، بالمقابل ما يجعل في وجدان الإنسان العربي، حتى يومنا هذا، انفعالا عجيبا بالأدب الأندلسي وبأجواء ابن الخطيب وابن زيدون وابن هاني، وهي ما يجعل في عقل ووجدان المثقفين العرب مكانة تكاد تكون متميزة للشاطبي وابن رشد واعتزازا وفخرا بابن زهر والعباس بن فرناس وأضرابهم من الأسماء التي تعتبر عند العربي اليوم رموزا وعلامات تدل على الهوية العربية. وأما التحديد بالسلب فهو، كما يقول المناطقة وعلماء اللغة معا، هو حد (=تعريف) الشيء بما ليس هو: الكتاب غير الطاولة، غير الشجرة، غير الملعقة.. تقول الهوية، متى تخيلنا أنها تتحدث عن نفسها: إنني كذا وكذا، ولست ذا ولست كذا. وحيث إن مواطن الإيجاب محدودة معدودة، في حين أن مجالات السلب تكاد تكون غير متناهية فإن التحديد بالسلب يكون، ضرورة، هو الحاسم في عملية التعريف.

كل ما في الكون يخضع، وجوبا لتأثير التاريخ ولا يسلم من فعل الزمن. والكون كله تحول وتبدل، فأنت لا تستحم في ماء النهر مرتين ما دام الماء يتدفق باستمرار وإلا ما كان النهر نهرا، تلك سنة الله في خلقه «ولن تجد لسنة الله تبديلا». تدعي الهوية أنها استقرار وثبات وارتفاع فوق الزمان والتاريخ معا وإفلات من فعل كل منهما، وهذا حسب ما تقتضيه طبائع الأمور وتستوجبه سنة الكون إدعاء كاذب، بل إنه محض هراء. في معترك التبدل والتغير الدائبين تصير الهوية وتتحول، فهي ليست تملك أن تخرج عن هذه الأحوال.

هل يعني هذا القول أن الهوية تصير إلى وهم، أو أنها مجرد وهم أو حلم كاذب؟ هل يعني هذا القول أيضا إن الهوية العربي ليست سوى ما نتوهم أنه كذلك؟

سخف وهراء أن يعتقد المرء شيئا مماثلا. والسؤال ينبغي أن يكون بالأحرى هو التالي: لماذا تمكنت الهوية العربية من الاستمرار والوجود كل هذه القرون العديدة؟ لماذا يزداد الوعي بالتمايز العربي قوة وانتشارا مع محاولات كثيرة للمسخ والإبادة؟

يكمن الجواب عندي في السمة الأساسية التي لا تزال تلازم الهوية العربية دون وعي كبير من حملة هذه الهوية والمتحدثين عنها من حيث أنها ترجمان وجودهم والمعبر عن أحلامهم وآلامهم معا. السمة الأساسية هي أن الهوية العربية استطاعت دوما أن تقاوم نزعات الانكفاء على الذات والتصامم عن العالم من حولها بالقدر الذي نجحت فيه أن تقاوم محاولات الإبادة والمسخ. لا، بل الحق أنها أفلحت في المقاومة لأنها، تحديدا، عرفت كيف تحافظ على انفتاحها على «الغير»، كما يقول العرب القدماء، أو على الآخر كما نقول في لغتنا اليوم.

الحياة انفتاح لا انغلاق، والحضارات العظمى كانت كذلك لأنها كانت حضارات انفتاح وإقبال لا انغلاق وإدبار. والحضارة العربية الإسلامية سمتها الأساسية (كما قلنا ذلك من هذا المنبر أكثر من مرة واحدة) قبول المغايرة والاختلاف - وليس يكون ذلك إلا من ثقافة تصدر عن هوية حضارية سمتها الانفتاح، فهي مشروع منفتح.

هل نملك اليوم الحفاظ على صفة الانفتاح أم أننا نرتمي في أحضان الانكفاء على الذات ومن التنكر لسنة الكون فيعضنا الدهر بنابه؟ أما الجواب عن هذا السؤال العسير فهو في يدنا لا بيد غيرنا.