وجهان لـ«عملة» واحدة

TT

تشاء مصادفة غير مقصودة أن يواجه لبنان وإسرائيل في وقت واحد إشكالا مشتركا: منح مواطنيهما المقيمين بالخارج حق المشاركة في انتخابات الداخل أو الاستمرار في حرمانهم منه.

قد تبدو هذه الإشكالية، للوهلة الأولى، وجهين لعملة واحدة بالنسبة للبلدين، ولا تخرج عن نطاق اتخاذ الإجراء الدستوري المناسب بحقها.. لولا فارق أساسي بين واقع البلدين، فلبنان دولة «مصدرة» لقواها البشرية، بما في ذلك أدمغتها، بينما إسرائيل دولة «مستوردة» لها - وبإصرار - منذ تأسيسها.

بالنسبة لإسرائيل، لا يتجاوز تعداد حملة الجنسية الإسرائيلية المقيمين بالخارج مئات الألوف، مما يعني أن منحهم حق الاقتراع لن يغير كثيرا من نتائج انتخاباتها النيابية، بينما تصل أعداد الانتشار اللبناني في الخارج إلى الملايين. وفي حال أقبلت هذه الملايين على الاقتراع بكثافة، فمن شأن أصواتها تبديل خريطة القوى السياسية في لبنان تبديلا جذريا (لا أحد يدري هل سيكون للأفضل أم للأسوأ).

ورغم أن المواطنين الإسرائيليين المقترح إشراكهم في انتخابات «الكنيست» ينتمون بأكثريتهم الساحقة إلى هوية دينية واحدة، فذلك لم يحل دون معارضة غلاة الصهيونيين منحهم حق الاقتراع، على اعتبار أن من شأن هذا الحق أن «يميّع» التمييز القائم بين إسرائيل (أرض الميعاد) ودول «الشتات» (دياسبورا)، واستطرادا «تشريع» الإقامة خارج إسرائيل. لذلك، يطالب المتشددون اليهود باعتماد مشروع أقل تشجيعا لـ«الدياسبورا» يحصر حق الاقتراع في انتخابات الكنيست بالإسرائيليين الذين أمضوا في الخارج أقل من أربع سنوات شريطة «تعهدهم» بالعودة إلى إسرائيل - الأمر الذي لا ينطبق على ملايين اللبنانيين الذين أمضوا حياتهم في الاغتراب وتجذروا في مجتمعاته إلى حد نسيان لغتهم الأم.

باختصار، مشروع إسرائيل منح مواطنيها في الخارج حق الاقتراع في الداخل يتوخى، قبل أي اعتبار آخر، توثيق ارتباطهم في بلدهم وضمان عودتهم إليه.

أما اقتراح منح المغتربين اللبنانيين حق التصويت في انتخابات البرلمان اللبناني، فلا تبدو دوافعه إصلاحية بقدر ما هي «رومانسية» في أحسن الحالات وطائفية في أسوئها.

صحيح أن هذا الاقتراح لم يتبلور بعد بشكله الدستوري النهائي، ولكن تضمينه شروطا تميّز بين المغترب المتطلع للعودة إلى لبنان - مهما طال زمن الاغتراب - والمغترب الذي لم يعد لبنان يعني له شيئا خارج كونه بلد «الجذور»، تبدو ضرورية لتبرير منحه حق المشاركة في انتخابات لن يتحمل، كباقي اللبنانيين المقيمين، تبعاتها السياسية والاقتصادية على بلده الأم.

إذا كان الكثير من هؤلاء المغتربين لا ينوون العودة، يوما ما، إلى لبنان فما هي الحكمة من منحهم صلاحية المشاركة في رسم مستقبله.. من الخارج؟

قد يكمن محك التمييز بين مغترب ما زال لبناني الانتماء وآخر اندمج في مجتمعه الجديد وتخلى عن هويته، في اعتماد ما تفرضه الدول الديمقراطية الأخرى – مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا - من شروط على رعاياها المقيمين بالخارج كي ينالوا حق الاشتراك في انتخابات بلادهم، وفي مقدمتها تسديد الضرائب المتوجبة عليهم لخزينة بلادهم عن مداخيلهم في دول الاغتراب.

لافت ألا يصدر صوت اغترابي واحد يقرن المطالبة بحق الاقتراع في لبنان بواجب تسديد ضريبة مالية ما لخزينته.

ولكن، هل يلام اللبناني المغترب على تجاهله هذا الواجب، إذا كان اللبناني المقيم يتهرب من ضرائبه المباشرة بكل أسلوب ممكن ومدخل متاح؟

ثم هل يلام اللبناني المغترب، المثقل أصلا بضرائب دولة الاغتراب (في ما خلا مغتربي الدول الأفريقية) إذا تردد في دفع فلس واحد لخزينة بلاده في ضوء ما يسمعه ويقرأه عن مسلسل الهدر والصفقات والفساد في وطنه الأم؟

ألا يكفيه ما شهد وسمع من اتهامات متبادلة بين سياسييه في الجلسات المتلفزة لمناقشات مجلس النواب الشهر الماضي، وتحديدا بقاءها مجرد اتهامات لا تستدعي تحقيقا، دليلا على أن قيام الدولة العصرية في وطنه ما زال حلم ليلة صيف شكسبيرية؟