فرنسا تواجه عالم ما بعد القومية

TT

استخدم كلا المرشحين الرئيسيين في حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية العاصفة نفس الكلمة (الأمة)، لتكون بمثابة الفكرة المهيمنة على حملتيهما.

وبينما ادعى الرئيس الفرنسي المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي أن هذه الانتخابات سوف تقرر مصير «الأمة الفرنسية»، أصر منافسه الاشتراكي فرنسوا هولاند، في المقابل، على أن ساركوزي كان يستخدم «القومية» كطعم لإغراء ناخبي جناح اليمين المتطرف.

يطلق أحد أبرز المعلقين الفرنسيين على هذه الانتخابات اسم «استفتاء على الهوية الفرنسية».

السؤال الحقيقي في الوقت الراهن هو، هل من الممكن فهم فرنسا الحالية على أنها دولة قومية بالمعنى التقليدي؟

ألم تتطور فرنسا لتصبح «كيان ما بعد القومية»، حيث لم يعد مفهوم «الأمة» مفهوما مركزيا؟

تعد فرنسا - والتي تعتبر واحدة من أقدم الدول في أوروبا - مهد القومية، حيث بدأت فكرة «القومية الفرنسية» في التبلور في القرن الثالث عشر عندما قام ملوك الكابيتيون، سلالة أوغو كابيه ملك فرنسا، ببسط قبضتهم على فرنسا التي أصبحت ذات شكل سداسي.

وعلى مدار القرون التالية، تم تدمير الخصوصيات الإقليمية واللغات والثقافات بشكل منهجي لخلق هوية «قومية» واحدة، ثم قام بعدها الملك لويس الرابع عشر، بموجب نفس السياسة، بتدمير مجتمع الطائفة البروتستانتية.

وحتى ذلك الحين، وقبل اندلاع الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، كانت اللغة الفرنسية هي اللغة الأم لـ12 في المائة فقط من السكان في فرنسا.

لطالما كانت فكرة إنشاء دولة موحدة بمثابة الأسطورة، فالأمر الأكثر أهمية كان مدى تقبل هذه الدولة على أنها حقيقة واقعية. من المحتمل أن غالبية الفرنسيين قد تقبلوا هذا الأمر في معظم فترات القرنين التاسع عشر والعشرين.

أما اليوم، فقد كشف نمط التصويت الحالي وجود شكوك جدية حول هذا المفهوم. فعلى مدار عقود، تم تقسيم فرنسا ببطء إلى مجتمعات دينية وعرقية وثقافية، حيث حلت هذه النزعة المجتمعية محل التقسيمات الطبقية القديمة في تحديد السلوك السياسي. صوت الغالبية الساحقة من أنصار فكرة «القومية الفرنسية» بالمعنى القديم لصالح ساركوزي، بينما صوت هؤلاء الذين يرون فرنسا على أنها مجموعة من المجتمعات لصالح هولاند.

لا تتعرض فكرة القومية للضغوط في فرنسا وحدها، حيث تدخل أسطورة القوميات في صراع في شتى أنحاء أوروبا مع أسطورة القومية الأوروبية الأكثر تعقيدا. لطالما اعتبرت المملكة المتحدة نفسها إمبراطورية، مع وجود فكرة تعدد الجنسيات في المملكة المتحدة في قلب فكرة الإمبراطورية هذه، ولذلك ترفض فكرة القومية بمعناها التقليدي.

لم تتمكن إيطاليا أبدا، والتي تأسست كدولة عام 1870، من التحول إلى أمة، أما في ألمانيا، التي تأسست كدولة عام 1871، أصبحت أسطورة «شعب ألماني واحد» بمثابة الحاجز الذي يقف أمام فكرة القومية.

وفي الوقت الذي تتراجع فيه فكرة القومية في موطنها الأصلي، أوروبا الغربية، لا تزال هذه الفكرة على قيد الحياة في غيرها من الأماكن. ففي روسيا، تستخدم النخبة الحاكمة القومية كآلية دفاع ضد فشل الديموغرافيا والمجتمعية، وبخاصة عند الإشارة إلى التزايد السريع للأقلية المسلمة.

أما في المجر، فتمثل جهود تأسيس قومية صغرى تحديا لأسطورة القومية الأوروبية.

اتخذت فكرة القومية المتبقية، في معظم بلدان القارة الأوروبية، شكل وحش آيديولوجي يميني متطرف ينفث النار والكبريت على الأطراف. وفي خارج أوروبا، فشلت فكرة القومية، التي تم استيرادها كآيديولوجيا، في ضرب جذور لها في تلك المجتمعات.

وعلى الرغم من كافة الادعاءات الخطابية، فلا يمكن اعتبار أي من الدول الأفريقية الـ53 أمة بالمعني التقليدي للكلمة، حيث تنقسم نيجيريا، أكبر دولة أفريقية، إلى ثلاثة أجزاء، يحتوي كل جزء منها على المزيد من الانقسامات الطائفية.

يتمثل الاتجاه السائد في معظم البلدان الأفريقية في حدوث انقسامات على أسس دينية أو عرقية، حيث تمثل هذا الاتجاه بوضوح في ظهور جنوب السودان كدولة مستقلة. وفي الكونغو (كينشاسا)، تحاول مقاطعات كيفو وكاتانغا تطوير هويات «قومية» منفصلة، بينما من غير المرجح أن تتحول دولة جنوب أفريقيا إلى أمة كلاسيكية.

وفي أميركا اللاتينية، يعد هذا الاتجاه بعيدا كل البعد عن فكرة القومية التقليدية حتى في الأرجنتين، أكثر بلدان القارة انسجاما من الناحية العرقية. وفي البرازيل، عزز النمو الاقتصادي الذي تحقق مؤخرا والانتصارات التي تتحقق في بعض الأحيان في لعبة كرة القدم من أسطورة «القومية البرازيلية»، وعلى الرغم من كل ذلك، لا يمكننا اعتبار البرازيل أمة بالمعنى التقليدي للكلمة مهما سرحنا بخيالنا.

وفي قارة آسيا، تحاول النخبة الحاكمة في الصين تحويل الشيوعية إلى هوية وطنية جديدة، من دون تحقيق نجاح يذكر حتى الآن. أما في اليابان، فلا يزال حس القومية يتمتع بالقوة، مدفوعا بالذكرى المأساوية التي حدثت في الحرب العالمية الثانية، بين سكان اليابان الذين يزداد معدل شيخوختهم.

وفي الهند، فمن غير المرجح نجاح الجهود الرامية إلى خلق آيديولوجيا قومية بعيدا عن التفاخر بالديمقراطية والنجاحات الاقتصادية التي تحققت مؤخرا في الهند، حيث لا يمكن بسهولة تنحية الاختلافات الدينية والنظام الطبقي وعودة ظهور اللغات المحلية جانبا.

وأما في بقية البلدان الآسيوية، فتعتبر فكرة القومية على النمط الأوروبي إما غير مناسبة وإما صعبة التطبيق.

وفي الولايات المتحدة الأميركية، تتعرض أسطورة القومية التي تتمحور حول الدستور لضغوط كبيرة من كافة الجوانب.

وفي إيران، تحاول النخبة الحاكمة جاهدة العمل على إذابة فكرة القومية الإيرانية في فكرة القومية الإسلامية الأوسع نطاقا، وبالتالي خلق قومية دينية هجين. وعلى الرغم من ذلك، لم تؤد تلك الجهود حتى الوقت الراهن إلا إلى زيادة العداء للإسلام.

حاولت النخب العربية، في الفترة بين أربعينات وسبعينات القرن الماضي، الترويج للقومية كآيديولوجيا رسمية، ولكنهم فشلوا في ذلك أيضا، حيث دخلت القوميات المحلية، في مصر على سبيل المثال، في صراع مع أسطورة القومية العربية الأوسع نطاقا. وفي معظم الدول العربية، تواجه فكرة القومية العربية آيديولوجيا منافسة، ألا وهي القومية الإسلامية. وفي الوقت عينه، يقلل السعي من أجل الديمقراطية من جاذبية فكرة القومية، ففي بعض البلدان العربية، مثل العراق ولبنان على سبيل المثال، تحول الطائفية الدينية دون تزوير شعورا بالقومية.

هل يدخل التاريخ الإنساني في مرحلة ما بعد القومية؟ هذا السؤال ليس خياليا، حيث تعد فكرة القومية، وهي آيديولوجيا حديثة ولدت في القرن الثامن عشر وبدأت في الازدهار في نهاية القرن العشرين، مجرد ومضة في التاريخ الإنساني.

تواجه فكرة القومية بعض التحدي من جانب اتجاهات العولمة والطائفية المتناقضة. تمثل موجات الهجرة الكبيرة وزيادة أعداد الأشخاص الذين يحملون جنسيتين أو أكثر واستخدام تكنولوجيات الاتصالات الحديثة لتعزيز الهويات المجتمعية تحديا أمام حلم إقامة أمة موحدة في أي مكان في العالم تقريبا.

ففي فرنسا، ينتمي، على الأقل، أحد آباء أو أجداد 25 في المائة من السكان إلى أصول غير فرنسية، بينما يحمل 5 ملايين مواطن فرنسي تقريبا جنسية ثانية. وبعبارة أخرى، فهناك مواطنون فرنسيون ليس أمة فرنسية بالمعنى الذي يقصده القوميون القدماء. قد يكون هذا هو الاتجاه الجديد في الوقت الذي يبدأ فيه عالم ما بعد القومية في التشكل.