هل أخطأت الاستخبارات الروسية في سوريا؟

TT

لم يتوقف المسؤولون الروس عن التصريح بعدم قدرة المعارضة السورية على مجابهة الجيش الحكومي والتغلب عليه، حتى لو جرى تسليحها بما تحتاج إليه. وحاولت العودة إلى أكثر من ثلاثة عقود مستذكرا قدرة الاستخبارات السوفياتية، في تعويلها على المصادر البشرية. وخلاف الاستخبارات الأميركية، فإن ضباط الاستخبارات السوفياتية كانوا يحضرون لقاءات التنسيق كآلات مبرمجة، لا يستطيعون الخروج عن النصوص المكتوبة لهم. واعتاد جنرالاتهم وضع أوراق المعلومات في جيوب ستراتهم وإغلاقها بدبابيس كدبابيس العجائز.

الآلية التي تربى عليها ضباط الاستخبارات الروس لا تساعدهم على تقدير الموقف خارج القياسات التقليدية. وهنا يلتقون إلى حد ما مع جوانب معينة يتصرف بموجبها الأميركيون بطريقة كومبيوترية عمياء. ومثل هذه الحسابات تصلح للمناورات والتمارين القتالية ولعب الحرب أكثر مما تصلح لقراءة احتمالات المستقبل. وبما أن السياسيين ليسوا مؤهلين لإطلاق تقديرات حول الأوضاع القتالية، فإن ما يصرح به وزير الخارجية الروسي وغيره يعكس تصورات استخباراتهم المعطاة للقيادة السياسية العليا.

الشيء المؤكد هو أن الوضع السوري معقد بامتياز. ليس بسبب التركيبة الوطنية كما يراد تصويرها على خلاف حقائقها، بل نتيجة تصادم المصالح الدولية. بحالة لم تسجل منذ حرب فيتنام. إلا أن التعقيدات لا تشكل حاجزا أمام الوصول إلى تقديرات متوازنة عن احتمالات المستقبل، بعيدا عن الأوهام، وبعيدا عن الانسياق وراء قياسات جامدة يمكن أن تتغير خلال فترة وجيزة.

قبل أيام، سمعنا أن وقود الدبابات السورية يوشك أن ينفد، وعن قيام إيران بإرسال مساعدات عسكرية إلى سوريا. ولم أستطع تقبل صحة الخبرين! مثلما أعتبر التقييم الروسي لاحتمالات المستقبل مسخرا لإحباط معنويات الأطراف المقابلة ولغرض دعائي ونفسي لا أكثر. فمنذ خمسة عشر شهرا مضت والجيش الحكومي لا يزال متماسكا وفق المنظور العام، والجيش الحر يزداد انتشارا على الرغم من تراجعه عن بعض المدن بدعوى تجنيب المدنيين الضرر. وقبل بضعة أيام، قال قائد الجيش الحر العقيد رياض الأسعد، إنهم سيتجهون إلى تكثيف استخدام العبوات الناسفة، السلاح الأكثر تأثيرا في عمليات المقاومة العراقية ضد القوات الأميركية، وهو توجه لم يكن بعيدا عن الحسابات التقليدية.

تتوافر للجيش السوري معدات وأسلحة وذخيرة تكفي لإدارة صراع (وفق معدلاته الحالية) لفترة طويلة. ومن غير المنطق القول إن مستوى المخزون من مواد تموين القتال قد تدنى إلى الخط الأحمر. فمشكلة القيادة العليا ليست هذه أبدا. لأن المصانع عاملة من دون الحاجة إلى مساعدات إيرانية (في هذا المجال)، اللهم إلا من مواد التصنيع الأولية في حالة التضييق على توريدها إلى سوريا، وهو ما لم تظهر مؤشراته حتى الآن. بل إن المشكلة الكبرى تكمن في مدى القدرة على ضمان مستوى مرتفع من الأفراد والولاء الذاتي داخل التشكيلات القتالية.

لا أريد أن أحبط الشباب، فأنا دائما أتعاطف مع الذين يحملون أرواحهم على أكفهم بالحق. بيد أن المعطيات تشير إلى أن الأزمة ستطول أكثر مما يعتقد، إن لم تحدث تطورات حاسمة! وإلا هل يعقل كل هذا الضجيج على ثلاث حاويات بكميات قليلة من العتاد من ليبيا يعترضها لبنانيون؟! أو أن تُضبط ستون ألف طلقة سلاح خفيف لا تكفي لاشتباكات ساعة في منطقة واحدة؟! ألا يعني هذا أن التسليح غير متوازن مع النمو البشري للجيش الحر؟! والمعارك لا تكسب بأفراد ضعيفي التسليح.

السوريون كانوا أكثر قربا من كل الدول العربية عدا دولتين، في متابعة المقاومة العراقية. لذلك لهم تصورات واضحة عن حالة الانتقال إلى مرحلة الاستنزاف الطويلة الأمد. والملاحظ أن الأخبار عن مناطق الساحل غابت إلى حد كبير عن وسائل الإعلام، مما يؤشر إلى نجاح «جانب» من استراتيجية النظام بإيجاد بدائل حتى لو كانت محكومة بمخاطر مستقبلية جدية. ولنتوقف عند بعض ما قاله بان كي مون أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: «لا مهرب من الواقع الذي نراه كل يوم؛ مدنيون أبرياء يموتون وجنود الحكومة والمدرعات الثقيلة في شوارع المدن.. وتصعيد مخيف لاستخدام العبوات الناسفة البدائية الصنع».

أعتقد أن العشرة آلاف قتيل، التي يتحدثون عنها، لا تزال رقما متواضعا للغاية من حيث الواقع وما قد يقع. غير أن الخيارات الأخرى لا وجود لها في الأفق.