طعن يطعن طعنا فهو طاعن

TT

بعد أيام قليلة، يصعد إلى سدة الحكم رئيس جديد للبلاد. وفي اللحظة التي يدخل فيها قصر الرئاسة، تخرج منها الساكنة القديمة التي استقرت فيه زمنا طويلا، وهي ثورة يوليو ومعها أولادها وأحفادها بعد أن جاءهم هادم اللذات، ومفرق الثورات، المعروف باسم ثورة 25 يناير. هذا هو رئيس لم يأتِ على أسنة الرماح ليطيح بنظام سابق، ولكن أتت به أو للدقة ستأتي به غالبية أصوات الشعب المصري. وحتى الآن لا نعرف شكل النظام في مصر من الناحية الدستورية؛ هل سيكون رئاسيا أم برلمانيا أو برلآسيا، الواقع أن النظام البرلآسي سيغذي احتياجات أكبر عدد ممكن من المشتغلين بالسياسة، لأنه سيتيح لهم بشكل أفضل تقديم أكبر عدد من الطعون في قرارات الرئيس وقرارات البرلمان.

وأتوقف بك عند كلمة «طعن» التي نقرأها كثيرا هذه الأيام، وآخرها الطعن الذي قدمه أحد السياسيين المحامين في القرار الذي أصدرته لجنة الانتخابات بتحويل قرارها إلى المحكمة الدستورية العليا، بعد أن استجابت لتظلم أحد المرشحين، وهو الفريق أحمد شفيق، الذي تظلم من استبعاده من الانتخابات الرئاسية، فأعادته اللجنة إلى حلبة السباق، وفي الوقت نفسه أرسلت الأوراق إلى المحكمة الدستورية، غير أن الطعن المذكور عاد بالحكاية إلى المربع رقم واحد. ولأول مرة في العصر الحديث، ظهرت كلمة جديدة في قاموس الحياة المصرية، وهي كلمة «متاهة» التي يستخدمها أساتذة الدستور والقانون الآن في وصف ما حدث بأنه «متاهة قانونية»، هكذا نكون قد قمنا في مصر في وقت قصير بتجاوز كل مساحات الصراع القانوني والمعارك القانونية، ودخلنا بيت جحا الذي تدخله وتعجز عن الخروج منه. من الذي صنع هذه المتاهة؟ وهل كان يهدف إلى أن نتوه فيها أو أن ما حدث كان عفو الخاطر، أقصد بسبب الاعتماد الزائد على القانون؟

أنت تعرف غرامي بالكلمات بوصفها الأداة الوحيدة للكشف عن آليات التفكير عند صاحبها؛ سواء كان فردا أو جماعة. وهو ما يجعلني أقول باطمئنان إن الناس تفكر بأسنتها. الكلمة المنتشرة الآن التي يستخدمها الوعي الجمعي في مصر الآن هي طعْن، طعَن، طعون. ستقرأ هذه الكلمات في الصفحات الأولى في كل الجرائد مقترنة بالأحكام وفي كل مجالات التقاضي بوجه عام، اقلب عددا من الصفحات في جريدتك اليومية، إلى أن تصل إلى صفحة الحوادث، ستقرأ أن فلانا وجه طعنة سكين إلى علان، أو أن فلانا وجه عددا من الطعنات إلى زوجته فقتلها. هو طعن في صفحة السياسة أما في صفحة الحوادث فهي طعنة وطعنات، هل هناك صلة بينهما؟ بالتأكيد سيكون ردك على هذا السؤال: مستحيل أن يكون الأمر كذلك.. لأن الناس جميعا «يعون» الفرق بين الطعن في القانون والطعنات عند القتلة والبلطجية.

الواقع إن إجابة سيادتك تستند بقوة إلى أن الوعي هو ما يحدد ويوجه أفعال البشر، إذا كان هذا هو حكمك فاسمح لي بأن أطعن في هذا الحكم، اللاوعي يا عزيزي هو ما يتحكم بشكل أقوى في انفعالات البشر وبالتالي في أفعالهم. لست أعرف الكلمة التي يستخدمها القانونيون في الإنجليزية والفرنسية غير أنني أستبعد أن تكون (stabbed)، أنا أرجوك أن تلاحظ أن صاحب الطعن يسمى «الطاعن»، هنا ننتقل إلى السؤال المحرك لهذا المقال. هل ماكينة الطعون الدائرة بقوة في مصر الآن تدور بدافع من الغيرة على القانون وحرصا على تحقيق العدل المجرد، أم أننا وصلنا لحالة نستمتع فيها بالطعون باعتبارها طعنات نستهدف منها القضاء على خصومنا؟

لم أصل إلى إجابة شافية بعد غير أنني أفكر في أننا عشنا مئات السنين في حالة جوع ضارٍ إلى القانون كوسيلة مؤكدة لإقرار العدل، وفجأة، وعلى غير انتظار، وجدنا أنفسنا جالسين إلى مائدة القانون بكل ما تحفل به القوانين من مواد لذيذة وجميلة فانهمكنا في الأكل إلى أن وصلنا إلى درجة من التخمة تنذر بالخطر، مطبخ القانون والدستور يقدم في كل لحظة طبقا جديدا تعقبه أطباق من الطعون الشهية. وهنا أعود لليلة الأولى للرئيس الجديد، بعد احتفاله مع مريديه بنجاحه في الانتخابات، تلك الاحتفالات التي استمرت حتى الفجر، دخل القصر بمفرده، وألقى نفسه بكل ملابسه على السرير الخاص بالرئيس بعد أن أكد له معاونوه أنه تم استبدال الملاءات التي كان يستخدمها الرئيس السابق. وفي السابعة صباحا، سمع طرقا شديدا على الباب، كان مندوب الأمن الوطني الذي قال له بصرامة: أنا آسف لإيقاظك في هذا الوقت المبكر، ولكن كان لدينا معلومات لا بد من إبلاغك بها بغير تأخير.. هناك خمسة آلاف طعن مقدمة ضد سيادتك تطلب إعادة الانتخابات، لأنه قد تم تزوير بعض الأصوات في عدد من الدوائر.. الغريب في الأمر أن عددا كبيرا من الطاعنين كانوا من العاملين في حملتك الانتخابية، لقد كتبنا لك عددا من الاحتمالات والخطوات التي يجب عليك اتخاذها مع كل احتمال.. أنا آسف لإيقاظك.

ويخرج مندوب الأمن الوطني ويحاول الرئيس استئناف النوم، صوت طرقات على الباب، يفكر في أنه لا يجب أن يستجيب للطارق، تشتد الطرقات، يتخذ قرارا بألا يستيقظ، هذا هو أول قرار جمهوري يتخذه وهو عازم بالفعل على تنفيذه، غير أن الباب يفتح ويدخل شاب، يلعب الرئيس دور الشخص النائم في سابع نومة، ولكن الشاب يهزه برفق فيضطر للاستيقاظ على اعتذارات الشاب: سيدي الرئيس أنا آسف على الإزعاج.. أنا مندوب الأمن القومي..

- هل تريد أن تبلغني بأن عددا من الطاعنين طعنوا في وصولي لمنصب الرئيس؟

* لا ياسيدي، هذه هي وظيفة الأمن الوطني، أما نحن فمهمتنا أن نعرف من وراء هؤلاء الطاعنين.. وعلى كل حال لا أهمية لكل هذه الطعون ما عدا طعنا واحدا، وهو ذلك الطعن الذي يستند إلى أن المادة 15 هي نفسها المادة 17 في دستور 71 وهي نفس المادة التي تم إلغاؤها بواسطة المادة 24، على العموم لسنا نشعر بالقلق من هذا الطعن لأن المادة 32 تقضي بعدم جواز إلغاء المادة 15 إلا في حالات حددها القانون وليس منها حالتك، هذا ما أكده لنا خبيرنا الدستوري.. ولكن واجب الأمانة يحتم عليّ أن أقول لسيادتك إننا لا نثق بمعلوماته، ولذلك سنستعين بعدد من الخبراء من خارج الجهاز.. هذه مذكرة سريعة عما حدث بالأمس في أميركا وأوروبا وأفريقيا، وردود الأفعال في إسرائيل وإيران، إسرائيل تنظر بحذر لوصولك لمقعد الرئيس، أما إيران فقد رحبت جدا بحضرتك، هناك خبر مهم.. لقد تم القبض على مجموعة من مهربي السلاح ووجدنا معهم عددا كبيرا من الصواريخ أرض - أرض.. والمدفعية المضادة للدبابات والطائرات.. تفتكر حضرتك لمن جاءوا بهذه الأسلحة؟ سيادة الرئيس.. سيادة الرئيس.. اصح.. حضرتك نمت؟

الرئيس يستيقظ ويهمس: «شوفوا لي مين خد القرار بحكاية الأسلحة دي.. واطعنوا في القرار».