القوانين وتطبيقاتها!

TT

وصلتني قبل أيام نسخة الدستور السوري الجديد، الذي بقي محل أخذ ورد بين قيادة السلطة السورية وأطراف حزبية وسياسية متنوعة، وسمي دستور الإصلاح أو التغيير. ومع أن بعضا من خيرة كتاب سوريا ناقشوا الوثيقة الرسمية الجديدة، التي قيل إنها نتجت عن حوار شاركت فيه أطراف سياسية متنوعة، فإنني أود التوقف هنا عند نقطة محددة تتصل بالفارق بين نص الدستور والواقع الذي ينصب عليه: نصه الملتبس في معظم صياغاته والواقع البشع الذي نجم عنه أو المفارق تماما له، مع العلم بأن هذا النص متهافت تؤكد جمله أن «الخبراء الدستوريين» الذين أسهموا في كتابته «مش ولا بد»، وأنهم كتبوه بقليل من الجدية، حتى إن المرء يجد نفسه مدفوعا إلى أن يصرخ بأعلى صوته: ما هكذا يكتب الدستور.

تقول المادة الثامنة من الدستور الجديد: «يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديمقراطيا عبر الاقتراع». لو كانت هذه المادة مطابقة للواقع القائم اليوم في سوريا، لميزت بالتأكيد بين التعددية السياسية والتعددية الحزبية، فالجمهورية العربية السورية لا تعرف التعددية السياسية، وإن كانت قد عرفت دوما تعددية حزبية تحولت بعد حكم البعث إلى تعددية الواحد، بعد أن تبنت جميع الأحزاب الموجودة في الساحة مقررات مؤتمرات السلطة القطرية، وألزمت نفسها بالامتناع عن العمل في المجالين الطلابي والعسكري «حفاظا على الوحدة الوطنية»، كما يقول نص مادة من ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية. يتحدث الدستور عن التعددية السياسية ويقصد الحزبية، التي ليست تعددية سياسية بأي حال، كما يتبين من طابع الأحزاب القائمة وموالاتها للنظام، ومن منع أحزاب المعارضة جميعها من العمل السياسي، تطبيقا لاستراتيجية تقوم على إغلاق المجال السياسي أو احتلاله بالكامل من قبل السلطة، التي حولته إلى مجال سلطوي تماما، وأفقدته تعدديته وجعلته مجالا حزبيا مغلقا وعنفيا. وكان أحد قادة المعارضة قد زار ذات يوم الأستاذ عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية آنذاك. خلال الحوار سأله المسؤول الرسمي عن مطالبه، فقال إن حزبه يريد المشاركة في الحياة السياسية. أجاب الأستاذ خدام بعصبية: السياسية أم الحزبية. المشاركة في الحياة السياسية ممنوعة، أما الحزبية فهي قابلة للنقاش والحوار. لماذا يتحدث الدستور عن «نظام سياسي يقوم على مبدأ التعددية السياسية»، إن كانت التعددية المقصودة كمية وليست نوعية، تعددية تماثل وليست تعددية اختلاف، تعددية رقمية تتباهى بالأعداد وتزعم أن لدينا عشرة أحزاب أو ربما عشرات الأحزاب، بينما التعددية السياسية لا تكون غير تعددية المتنوع والمختلف، ولا يمكن أن تتفق مع تعددية الدستور الجديد، النافية للتنوع والاختلاف، والتي لا تنهض ديمقراطية ولا تكون حرية دونها. وجد منذ عام 1972، تنوع حزبي في سوريا، لكنه لم يوجد أي تنوع سياسي. وكان عليك أن تبحث عن عضو في الحزب الشيوعي أو حزب قومي جبهوي، إن أردت الاستماع إلى من يدافع عن البعث والنظام، لأن هذا العضو كان يعطيك الانطباع بأنه ضل طريقه إلى البعث ودخل خطأ في الحزب الشيوعي أو القومي الجبهوي، حتى إنني سألت ذات مرة «قائدا قوميا» لماذا لا يدخل في البعث إن كان يراه على ذلك القدر من العظمة، الذي يتحدث دائما في خطبه عنه، فقال لي أحد مرافقيه مداعبا: شو ما بتعرف يا أستاذ إنو البعث فرزه لعنا وكلفه بقيادتنا.

تقول المادة 15 في الفقرة ب: «لا تنزع الملكية الخاصة إلا للمنفعة العامة بمرسوم ومقابل تعويض عادل وفقا للقانون». ويقول الواقع: إن ملكية 92 في المائة من أراضي بلدة المعضمية القريبة من دمشق نزعت من قبل سرايا الدفاع، التي كانت بقيادة رفعت الأسد، وإن هذا بنى عليها ثكنات وضاحية سكنية لمنفعة جنوده وضباطه، وإن أصحاب الأرض لم يعوضوا عنها إلا بعد ثلاثة عقود، وإن التعويض كان عادلا جدا، فقد قبض صاحب الأرض ليرة ونصف الليرة ثمن المتر من أرضه، بينما قبض سكان السومرية - اسم الضاحية -، الذين يقطنون مدينة مخالفة للقانون، فتحوا فيها حوانيت بلا رخصة وتاجروا خلال ثلاثة عقود بمواد مهربة من لبنان، ثمن متر أرض ليست لهم عشرين ألف ليرة سورية. هذه هي المنفعة العامة، وهذا هو التعويض العادل، وهذا هو القانون. عندما روى أصحاب الأرض للرئيس بشار الأسد مأساتهم ضحك وأخبرهم أنه لا يعرف شيئا عن القضية، وانتهى الأمر. واليوم يقال إن المعضمية خارجة عن القانون، وإن شعبها مجرد عصابات مسلحة، ولا يقال إن المنفعة الخاصة لم تترك لهم أي شبر أرض يستخدمونه في زراعة أو بناء، وإنهم لا يطالبون بالحرية إلا لاعتقادهم أنها وسيلتهم الوحيدة والأخيرة لاسترداد حقوقهم الضائعة، التي لا يكفلها دستور ولا يصونها قانون، ما دامت هناك إرادات كثيرة فوقهما، وما دام الشعب صامتا ومشتتا ومذعورا. تقول الفقرة التي بعدها (16): «تجوز المصادرة الخاصة لضرورات الحرب والكوارث العامة بقانون لقاء تعويض عادل». من الذي يحدد ما هي ضرورات الحرب؟ إذا قال قائد لواء لصاحب أرض إنه يريد نشر دباباته في حقله لضرورات الحرب، وأظهر له أمرا مكتوبا يسهل الحصول عليه من الأركان العامة، ماذا يستطيع هذا المسكين أن يفعل؟ أعرف رجلا فعل هذا. عندما عاد بعد أسبوع من دمشق إلى مزرعته وجد الدبابات في حفر كبيرة تحت أشجارها، والجنود في كل مكان، لضرورات حرب لا ولن تقع، ولا يثق عاقل في سوريا بأنها قد تقع في يوم من الأيام. ما الفاصل بين حالة الحرب والكوارث العامة، التي تحدث الدستور عنها؟ هناك فاصل بالتأكيد، سأشرحه على النحو التالي: إذا لم تقتنع بأن ضرورات الحرب تحتم عليك قبول التخلي عن ملكيتك وحقوقك، حلت بك كارثة شخصية تفوق في هولها أي كارثة عامة قد تحل بأي وطن!

يحفل الدستور بمثل هذه الخزعبلات، التي اكتوى السوريون بنارها طيلة نيف وأربعين عاما، وها هو النظام يعيد إنتاجها وتسويقها باعتبارها حلولا لأزمة مستعصية، متجاهلا أنها هي التي دفعت السوريين إلى القيام بثورة يرون فيها فرصة وحيدة لنجاتهم، رغم ما تتطلبه من تضحيات جسيمة ويومية يقدمونها بحماسة تثير دهشة العالم الذي لا يعرف خلفياتها، لكنها لا تثير دهشة من يعرف سوريا والمفارقات التي تفصل نصوص نظامها المزركشة بالكذب عن واقع شعبها الشديد القتامة والبؤس.

لا يصلح الدستور الجديد لسوريا الحرة، ولا يقبل السوريون أن يضحك عليهم بالنصوص الدستورية المنمقة، بعد أن خرجوا على نص الاستبداد متنا وهامشا، وشرعوا يسيرون بالملايين تحت راية نص نقيض هو نص الحرية المضرج بدمائهم!