أوروبا تضيق ذرعا بالتقشف

TT

جربت أوروبا سياسة التقشف، لكنها لم تجد نفعا. ومع اتجاه حكومات الدول الأوروبية إلى تقليص ميزانيتها، وصل معدل البطالة في دول منطقة اليورو السبع عشرة إلى 10.9% خلال شهر مارس (آذار) وهو أعلى مستوى لها منذ بداية استخدام اليورو عام 1999. وتعاني إحدى عشرة دولة، اثنان منها خارج منطقة اليورو لكنها ألزمت نفسها بالتقشف مثل بريطانيا، رسميا من تراجع اقتصادي. ويبلغ معدل البطالة في إسبانيا 24.1%، في حين وصل معدل البطالة بين من هم دون الـ25 عاما إلى نسبة مفجعة تبلغ 51%. مع ذلك لا تزال الحكومة الإسبانية المحافظة تعمل على تقليص الوظائف والخدمات التزاما باتفاق التقشف المالي الذي دفعت به ألمانيا، التي تعد محرك الاقتصاد الأوروبي، ووافقت عليه الدول الأوروبية الأخرى في ديسمبر (كانون الأول). وارتفع معدل البطالة في خلال شهر أبريل (نيسان) حتى في ألمانيا، التي كانت مزدهرة اقتصاديا، بينما تعاني دول جوارها من تراجع اقتصادي، مما أدى إلى ضياع كافة المكاسب التي تم تحقيقها في مجال التوظيف على مدى العام. وتحتاج ألمانيا، بصفتها من الدول المصدرة الكبرى، إلى دول جوار تحقق دخلا اعتمادا على جهد العمل حتى تشتري ما تنتجه من سلع، لكن عزم وإصرار المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، على الالتزام بتحقيق التوازن في الميزانية قد يؤدي إلى إفسادها للمعجزة الاقتصادية الألمانية وذلك بحرمان المصنعين الألمان من العملاء القادرين على الشراء. ولا تقتصر تكلفة التقشف على التراجع الاقتصادي في الدول الأوروبية، بل امتدت في بعض الدول لتشمل عودة ظهور اتجاهات سياسية متطرفة في بعض الدول. ففي الوقت الذي فشلت فيه أحزاب اليسار الوسط واليمين الوسط في منع فقدان الوظائف، حظيت بعض الأحزاب التي تقف على الجانب الآخر من المشهد السياسي مثل الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبين في فرنسا، وحزب الحرية الألماني بقيادة غيرت وايلدرز بدعم كبير لسياستهم اليمينية المعادية للأجانب والمناهضة للمهاجرين. وتقف الأحزاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ضد الاتحاد الأوروبي وهو موقف مزعج للغاية وله ما يبرره.

تسبب الاتحاد الأوروبي وقضية الوحدة الأوروبية بكل ما بهما من نقائص في وضع أوروبا بالكامل على طريق لا نهاية له أكثر سلامة من الطريق الذي كان يسير فيه خلال النصف الأول من القرن العشرين. ومن عيوب الوحدة أنها أرست سياسة نقدية واحدة لدول ذات أنظمة اقتصادية متباينة، وأقامت تضامنا أوروبيا حرم تلك الدول من الاستقلال المالي بمجرد حدوث كساد عظيم، وهو تطور تم تقنينه من خلال اتفاق التقشف المالي الذي دفعت به ميركل.

فكرة الاتفاق وخفض الميزانية بوجه عام، هو أنه في حال خفض الحكومات الإنفاق وعجز الميزانية، ستكافئهم الأسواق من خلال الاتجاه إلى الاستثمار في اقتصادها الذي يفترض أنه أصبح منتجا أكثر. مع ذلك حدث العكس، فعندما خفضت حكومات دول مثل اليونان وآيرلندا والبرتغال وإسبانيا ميزانيتها، فترت رغبة المستثمرين في شراء السندات الحكومية. وأقنعت هذه الدول، بانغماسها أكثر في التراجع الاقتصادي، المستثمرين بأنها لا تسير على النهج القويم من الناحية المالية بل وبأنها لن تصبح بيئة اقتصادية صالحة لسنوات كثيرة.

ويثور الأوروبيون حاليا ضد التقشف، ففي فرنسا أزاح فرنسوا هولاند الاشتراكي نيكولا ساركوزي عن الرئاسة، وهناك عدة أسباب وراء عدم تمتع ساركوزي بأي شعبية، لكن السبب الرئيسي هو تبنيه بحماس اتفاق التقشف الذي دفعت به ميركل. على العكس من ذلك، يدعو هولاند إلى اتخاذ إجراء من قبل الحكومة لدفع عجلة النمو. مع ذلك ليس تيار اليسار وحده هو الذي يولي النمو أهمية أكبر من التقشف، حيث يرى رئيس الوزراء الإيطالي التكنوقراطي، ماريو مونتي، الذي تم اختياره من أجل ترتيب الأمور المالية للدولة، أن النمو يجب أن يأتي قبل التقشف. يبدو أن الملايين التي خرجت إلى شوارع أوروبا في عيد العمال قد انتصرت. وتكتسح حركة الجماهير المنادية بتطبيق المبادئ الاقتصادية الكينزية الدول الأوروبية رغم عزم ميركل المستمر على إجهاض هذه الحركة على الأقل حتى تصبح قائمة الطلبات أقصر. بطبيعة الحال لدى الولايات المتحدة مباعث قلق خاصة بالتقشف هي الأخرى، ففي الوقت الذي استعاد فيه القطاع الخاص عافيته على نحو ما عقب انهياره بين عامي 2008 و2009. حيث وفر 4 ملايين فرصة عمل منذ بداية هذا التعافي عام 2010. تخلصت الدولة والمجالس المحلية من 611 ألف موظف من بينهم 196 ألف معلم منذ تولى أوباما الرئاسة بحسب ما ذكر زاكاري غولدفارب من صحيفة «واشنطن بوست». ويحظى تقليص حجم الحكومة بالأولوية في ظل السعي إلى استعادة الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة. في إطار سياسة الحوافز تم تقديم أموال عام 2009 إلى الولايات والمدن حتى لا يتم تسريح العمال، لكن عندما بدأت الأموال تنفد عام 2010، تضاعف عدد الذين تم تسريحهم، خاصة من المعلمين.

كان الدرس المستفاد من عام 2008 هو أن غياب الضوابط التي تحكم الأموال يمكن أن يؤدي إلى كارثة. أما الدرس المستفاد من الأعوام التالية هو أن التقشف في وقت يعاني فيها الاقتصاد من التراجع لا يعزز الكارثة فحسب، بل أيضا يزيدها سوءا. ربما يعتقد المرء أن العالم كان يجدر به تعلم هذا الدرس من أزمة الثلاثينات، أو كان يجدر بألمانيا على الأقل تعلمه. مع الأسف يبدو أن علينا تعلم الدرس بكل ما فيه من ألم مرة ثانية وثالثة.

* خدمة «واشنطن بوست»