اتحاد «المصالح» الخليجية.. لا وحدة النموذج السياسي

TT

حظيت دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز لقيام وحدة خليجية في ديسمبر (كانون الأول) 2011، باهتمام كبير في الأوساط العربية والأجنبية؛ فمن جهة، طرحت هذه الدعوة مطلبا جادا بين أعضاء المجلس للتفكير في تطوير تعاونهم المشترك، ليكون على مستوى التحديات الداخلية والخارجية التي يواجهها سكان الإقليم، ومن جهة أخرى، جاءت في وقت أصبحت فيه هذه الدول، أكثر من أي وقت مضى، متوافقة على جملة مواقف إقليمية في مرحلة اهتزاز عربية - يسميها البعض «الربيع العربي» - مما يستدعي إعادة النظر في آليات عملها المشترك، ومستقبل أمنها واستمرار نموها ذاته في محيط غير مستقر.

بداية، لقيت الدعوة ترحيبا كبيرا نظرا للثقل والاحترام الكبيرين اللذين يحظى بهما الملك عبد الله، وللدور الإيجابي الذي لعبته السعودية، لا سيما خلال العام الماضي، في التنسيق بين دول الخليج، ومشاوراتها؛ بل ودعمها شركاءها التعاونيين خلال الأزمة الراهنة، بحيث بدت السعودية قادرة على إعطاء بعض دول الخليج دور القيادة والريادة، في تحديد المصالح الخليجية في مواجهة أزمة الانتقال غير المستقرة في بعض البلدان العربية؛ والحالة الليبية، والسورية، والمصرية شواهد على ذلك. ولكن رغم ذلك كله، فإنه قد بدت هناك مواقف وأسئلة مشروعة تجاه دعوة السعودية للاتحاد، لعل أبرزها الجدل حول آلية أو شكل الاتحاد المزمع إقامته، وهي في غالبها أسئلة تتعلق بتفاصيل المشروع مثل طبيعته؛ كونفدراليا أم فيدراليا، وليس بجوهره بوصفه حاجة حقيقية إلى تطوير التعاون المشترك وصولا إلى الوحدة. لعل من أبرز ما تم طرحه في هذا النقاش ما كتبه عبد الرحمن الراشد مدير عام قناة «العربية» في عموده بجريدة «الشرق الأوسط» تحت عنوان: «أنا ضد اتحاد خليجي كهذا!»، ومقالة د. عبد العزيز العويشق، الأمين العام المساعد للشؤون الاقتصادية لمجلس التعاون بعنوان: «لماذا الاتحاد الخليجي؟ ولماذا الآن؟» (جريدة «الوطن» السعودية، 14 مايو/ أيار).

في المقالة الأولى قراءة نقدية لفكرة الاتحاد، وطرح للتحفظات والمخاوف. أما الثانية، فمؤيدة للمشروع، ويستشهد كاتبها بالفوائد الاقتصادية والتنظيمية التي تحض على الوحدة، ولكن ما يلفت الانتباه أن كلتا المقالتين - رغم وجاهة الطرح والحجة - لم تركز على جوهر المسألة؛ ألا وهو «المصلحة الأمنية» الرئيسية في نشوء وبقاء المجلس في المقام الأول.. في مقالته، حاول الراشد حشد عدد من الحجج في وجه فكرة الوحدة، وساق في معرض مناقشته عددا من التحفظات المبررة حول ضرورة احتفاظ الدول الخليجية بسيادتها الشرعية في ما يتعلق بسياستها التشريعية الداخلية، أو بعبارة أدق نموذجها السياسي، مبديا رفضه أي وحدة من شأنها الإضرار بالمكاسب السياسية، والاقتصادية، والأهم بخصوصيتها الاجتماعية التي تميزها كالانفتاح الاقتصادي والاجتماعي في دولة مثل الإمارات، أو التجربة البرلمانية كما في كل من الكويت والبحرين، أو الانفتاح ـ النسبي - في الإعلام السعودي. بيد أن الراشد الذي رفض سيناريو الاتحاد، عاد في نهاية المقال ليؤكد ضرورة الاتحاد إذا ما وضحت فكرته، وكان مبنيا على مراعاة السيادة الداخلية لكل دولة، مؤكدا أن السعودية ستكون أكثر دولة مستعدة للتنازل من أجل نجاح التجربة.

العويشق، من جهته، يشير إلى ظروف نشأة المجلس، مبينا أن فكرة الاتحاد كانت موجودة منذ اليوم الأول، ولكنها لم تتحقق، لأن تلك الدول كانت لا تزال في طور بناء مؤسساتها، ومجتمعاتها لم تكن مؤهلة بعد علميا أو تنظيميا لتباشر تلك الخطوة، ولكنه يستدرك بعد ذلك بأن الأوان قد آن للقيام بتلك الخطوة، من أجل تحقيق المصالح الاقتصادية والنظامية لهذه الدول.

في رأيي، أن كلا من الطرحين مهم ومفيد، ولكن يبدو أن مشروع الوحدة بحد ذاته لا يزال قيد الدراسة، حيث لم تتمكن القمة الخليجية من إتمامه في هذه المرحلة، وأغلب الظن أن تلك المقترحات ما زالت غير واضحة، أو لنقل غير قادرة على تجاوز الخلافات الأساسية، وترجمتها إلى مشروع قابل للتطبيق العملي. لا شك أن الجميع يتحدث عن «المصالح»، ولكن لا يبدو أن هناك توافقا على ماهيتها بالتحديد: هل هي فقط مصالح أمنية، أم اقتصادية، أم اجتماعية وتنظيمية؟ ثم ما الأولويات، والبدائل، حتى داخل كل مجال من أوجه الاتحاد المرجوة. هنا يمكننا التركيز على نقطتين الأولى: أن تقييم جدوى الوحدة يجب أن يكون مبنيا على المصالح - المفصلة لا العامة - لا استلهام نموذج سياسي لدولة ما على حساب الأخريات. الثانية: كان أساس الوحدة منذ البداية مبنيا على «المصلحة الأمنية»، أي الدفاع المشترك ضد أي تهديدات خارجية. لنكن صرحاء، المصالح الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية مهمة، ولكن الدافع الأساسي - أو قل المبرر الرئيسي - لإعادة طرح موضوع «الاتحاد» هو الهاجس الأمني، لا سيما بعد مرور المنطقة بأسرها بمرحلة اختلال في توازن القوى، وظهور تهديدات أمنية كبيرة في وجه استقرار دول الخليج. لشرح هذه المسألة، دعونا نتأمل في المصلحة الاقتصادية؛ على سبيل المثال دول الخليج ستجني فوائد إذا ما طورت تعاونها التجاري، ووحدت نظامها التجاري، وأقامت محكمة عليا للنزاعات التجارية، ونظاما موحدا للضريبة والجمارك، وغيرها من أوجه الشراكة الاقتصادية. ولكن حتى لو لم تتم تلك الخطوات، فإن دول الخليج باقتصاداتها النفطية قادرة على النمو بشكل فردي من دون تلك الخطوات لعقود مقبلة. ما نود قوله هنا أن الأولوية يجب أن تعطى لتطوير التعاون الأمني بشكل يرتقي إلى التحديات الإقليمية مثل التهديدات الإيرانية، أو الآثار الجانبية السيئة لصعود نظم «شعبوية»، أو قائمة على أساس آيديولوجي أو طائفي، في دول الجوار. هنا يمكننا استحضار التجربة الأوروبية؛ ليس في جانبها الوحدوي، أي الآراء المؤيدة للوحدة، بل في جانبها المعارض للانصهار القسري لسيادة الدولة في بيروقراطية إقليمية أكبر في صورة الاتحاد الأوروبي. هناك فوائد عديدة للوحدة الأوروبية، ولكن هناك سلبيات أيضا، لعل من أمثلتها أزمة اليورو الناتجة عن الديون الهائلة لدول مثل اليونان، وإسبانيا. وهناك أيضا، ظاهرة تراجع الإنفاق العسكري الأوروبي الذي تسبب في تراجع الكفاءة والجاهزية الدفاعية لدول الاتحاد، مما اضطرها للاعتماد بشكل كبير على معدات حلفائها الأميركيين في الناتو خلال الأزمة الليبية على سبيل المثال.

في كتابها «صناعة الدولة: استراتيجيات لعالم متغير» (2002)، طرحت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر رواية مهمة لقصة النشوء التدريجي للاتحاد الأوروبي، حيث أكدت أن المصالح الاقتصادية والتنظيمية والتشريعية والقضائية، التي كان يبشر بها دعاة الاتحاد لم تكن في النهاية إلا وسيلة لتغطية الطموحات «الفيدرالية» للساسة الأوروبيين. بشكل ذكي وعميق، تشرح تاتشر جوهر أزمة الخلاف حول الاتحاد الأوروبي، وتقارنه بالنموذج الاتحادي الأميركي، حيث يريد الأوروبيون تقليد التجربة الأميركية - وإن لم يقولوها صراحة - ولكنهم في الوقت ذاته، لا يريدون توحيد اللغة والثقافة والقيم: «فكرة الوحدة الأوروبية يعتورها القصور، لأن الولايات المتحدة لم تبدأ مشروعها الوحدوي إلا في القرن الـ18، ولم تتحول إلى نظام فيدرالي حقا، إلا في القرن الـ19 من خلال أحداث جسام، وقبل كل شيء من خلال الضرورات، ونتيجة للحرب.. على النقيض من ذلك، (الاتحاد) الأوروبي هو نتيجة لخطط (بيروقراطية)، أو هو في الواقع مشروع كلاسيكي طوباوي.. نصب تذكاري لغرور جماعة من المثقفين، ولهذا، فهو برنامج مصيره الفشل، والشك فقط هو في حجم الأضرار النهائية». لا شك أن لقيام الاتحاد الأوروبي ثماره، ولكن، كما تشير ثاتشر، هناك في التنازلات السيادية للدولة جوانب سلبية كبيرة، ولعل هذا ما يشرح جوهر الخلاف حول مشروع الاتحاد الخليجي.

لأجل ذلك، يمكننا تسجيل ملاحظتين حول عوائق العمل الخليجي المشترك كانتا ولا تزالان حاضرتين: إحداهما أن الخليجيين يريدون بلوغ صورة مثالية للاتحاد من دون الإقرار بالعوائق الطبيعية، لأي مشروع شامل وكامل. أما الأخرى، فهي أن الخليجيين - ربما لسيكولوجيتهم - يتحرجون من مناقشة الخلافات بشكل علني، وطرح التحفظات والمخاوف بصورتها الحقيقة. إذا كانت الدول الخليجية جادة في مشروع «الاتحاد»، فلتبدأ بالاتحاد الدفاعي أولا، فهو كان ولا يزال الباعث على تعاونهم منذ تأسيس المجلس.