سوريا.. ومخاوف الحرب الأهلية!

TT

ثمة وجهتا نظر تتبلوران في الأوساط الثقافية والسياسية السورية تجاه تواتر المخاوف والتحذيرات من اندفاع الأمور إلى حرب أهلية في حال فشل خطة كوفي أنان.

وجهة النظر الأولى لا تعطي أهمية لهذه التخوفات وتعتبر أن عناصر الحرب الأهلية وحوافز اندلاعها غير متوافرة في البلاد. وإذ يعترف أصحابها بتصاعد بعض وجوه العنف المضاد وما يخلفه من أذى اجتماعي وإنساني في بعض مناطق التوتر والاحتقان، فإن الأمور لن تصل، في رأيهم، إلى صورة الحرب الأهلية، مستندين عموما إلى أن انفلات الوضع وحصول فوضى أمنية شاملة في سوريا، أمر مرفوض عند غالبية الأطراف العربية والدولية لأنه سيكون مكلفا ومؤثرا على الاستقرار السياسي في المنطقة وفي دول الجوار، ومستندين خصوصا إلى وعي متأصل لدى السوريين بمخاطر ذلك على وطنهم ومستقبلهم، وإلى ذاكرتهم المشبعة بصور المآسي والآلام التي تكبدها الشعبان اللبناني والعراقي وأخيرا الليبي جراء الاقتتال الأهلي، وإلى أن المجتمع السوري لا يملك رصيدا تاريخيا من الأحقاد والمواجهات الحادة بين مكوناته يستحق التوظيف والاستثمار، وأن البنية النفسية للشعب السوري تميل عموما نحو التوافق والتسامح والتعايش، في ظل تداخل جغرافي مذهل بين مكوناته المختلفة؛ العرقية والدينية والمذهبية، وندرة وجود معازل أو أماكن تحسب على طرف دون آخر.. ومستندين أيضا إلى حساسية السوريين المتميزة تجاه المسألة الوطنية واشتراكهم تاريخيا في بناء دولة عمومية جامعة نأت، على الرغم مما شاب سلطتها من تشوهات، عن المحاصصة الفئوية المتخلفة، وإلى أن القوى السياسية السورية على اختلاف آيديولوجياتها واجتهاداتها، ذات منابت متنوعة، وأن النظام ذاته لا يعتمد فقط على جماعة منفردة تعضده وتدعمه، وكذلك المتظاهرون والمحتجون لا ينتمون إلى جماعة واحدة، والدليل أن الثورة السورية تنطوي على تنوع وتعددية لافتين؛ فإلى جانب العرب والأكراد، هناك مشاركات متفاوتة تبعا لكل منطقة من مختلف الطوائف والمذاهب، والأهم أنه تغلب على هتافات المحتجين الشعارات المناهضة للطائفية وإعلاء قيم المواطنة وأسس العيش المشترك.

وجهة النظر الثانية، تتفهم هذه التحذيرات والتخوفات، لكنها تضع كامل المسؤولية على عاتق أهل الحكم، وتتهمهم بأنهم يسعون بصورة إرادية ومخططة لتوفير شروط اندلاع حرب أهلية، بصفتها الخيار الأخير الذي يمكن الرهان عليه لإخراجهم من دوامة ما هم فيه. فالنظام الذي يطلق آلته الأمنية والعسكرية على مداها لتعمل قهرا وتنكيلا، ويرفض الحلول السياسية ويصر على إنكار مطالب الناس وإظهارهم أدوات تآمرية، ويشحن الغرائز والانفعالات وردود الفعل الثأرية، هو الذي يخلق فرصة نشوب الحرب الأهلية، بل إن هذا النوع من الأنظمة لن يتوانى عن جر البلاد كلها إلى الخراب من أجل استمرار امتيازاته وبقائه في السلطة، يعزز ذلك شخصيات فاسدة لا مخرج لها سوى التعويل على فوضى الاقتتال الأهلي كي تخلط الأوراق وتضيع الحدود لتنجح في الإفلات من المحاسبة! ثمة مستجدات حصلت في المشهد السوري استند إليها كل من حذر وتخوف من احتمال ذهاب البلاد إلى نزاع أهلي، أهمها تواتر الانشقاقات داخل القوى العسكرية، ولجوء بعض الجماعات الأهلية إلى السلاح بداية لحماية المتظاهرين ثم للرد على محاولات اقتحام المناطق والأحياء، وما رشح إلى الآن، أن ثمة عمليات عنف مضاد قد حدثت، لا يخفف من وطأتها أن تأتي ردا على شدة القمع والتنكيل أو لاضطرار بعض المنشقين من الجيش إلى استخدام سلاحهم دفاعا عن أنفسهم وهربا من موت شبه محقق في حال اعتقالهم، أو أن تبقى محلية الطابع وتقتصر على أماكن محددة ردا على ما تعرضت له من ترويع، أو لأنها لا تساوي نقطة في بحر مشهد العنف الدامي الذي تقوم به أجهزة السلطة وترك وراءه عشرات الآلاف من الضحايا والمعتقلين والمشردين، حيث إن هذه المستجدات تنذر وللأسف، في حال استمرارها واتساعها، بتقدم منطق الرد على العنف بمزيد من العنف وتحويل لغة القوة إلى وسيلة وحيدة تجب ما قبلها لتفلت الأمور تدريجيا وتذهب نحو اقتتال أهلي سيأخذ على الأرجح في الخصوصية السورية طابعا متخلفا ودون المستوى السياسي!

ويضيف أصحاب هذا الرأي أن هذه المخاوف ما كانت لتظهر وتتنامى لولا ضعف وتباطؤ ردود فعل الدول العربية والغربية في معالجة ما آلت إليه الأوضاع في البلاد، التي منحت النظام المهلة تلو المهلة وتأخرت كثيرا في إعلان موقف حاسم منه! وأيضا لولا استمرار الموقف السلبي أو المتردد لقطاعات مهمة من المجتمع السوري، لا تزال خائفة لأسباب عديدة ومحجمة عن الانخراط في عملية التغيير وتستسلم لتشويش ومبالغات مغرضة في قراءة أحوال الثورة الناهضة ومآلها!

لم يخل تاريخ المجتمعات البشرية من الحروب الأهلية بما فيها أرقاها اليوم وأكثرها ديمقراطية قبل أن تكتشف أن طريق الاقتتال والإقصاء ورفض الآخر هي طريق لا أفق لها، مليئة بالآلام ومدمرة، فالحرب الأهلية تعني، وببساطة، اقتتالا يصل إلى حد الاستئصال والإفناء بين جماعات مختلفة من الناس في البلد الواحد، ودوافعها متنوعة؛ منها القومية ومنها الطائفية أو المذهبية ومنها القبلية، وغالبا مزيج من كل ذلك.. وتنشب ما إن تعجز الوسائل السياسية والسلمية عن معالجة أسباب الخلافات ربطا بإصرار أطرافها أو أحدهم على الأقل على منطق القوة والعنف والغلبة طلبا للحسم.. وطبعا كلما اشتد أوار الحرب الأهلية، اتضحت التخندقات وجر المجتمع جرا نحو مسار خطير جوهره العمل على التفكيك التدريجي لمقومات الحياة المشتركة وتحطيم معايير المصلحة الوطنية الجامعة، لتصل بفظاعتها وبما تكرسه من البغضاء وباستباحتها أبسط القوانين والأعراف الإنسانية، إلى تدمير المجتمع ومستقبل أطفال أبرياء كانوا ينتظرون من آبائهم المتقاتلين وعدا وأملا بغد أفضل!