غرباء بيوتنا!

TT

تصدر مجموعة من أبرز المثقفين والكتاب في لبنان مجلة فصلية سميت «كلمن» جاء في إثباتها أنها تصدر عن «شركة سين». وجميع القيمين على المجلة من أهل الفكر والاجتهاد والتكرس الأدبي العميق، فلا أدري لماذا اختاروا اسما لا يعكس مقامهم ولا مقاماتهم ولا طبيعة عطائهم. لكن تحت الاسم الذي يذكرني بأغنية ليلى مراد «أستاذ حمام نحن الزغاليل» تتركز مادة إبداعية جمالية تعيد إلى المجلات الدورية رونقها، كما تؤكد أهمية النص العميق في عصر الإنترنت.

في الإمكان التوقف بتقدير عند كل مقال في العدد الأخير (رقم 6) لكن الاختصار ظلم ولا أحب أسلوب إعطاء الشهادات لأنني غير مؤهل لذلك. فكل عمل إبداعي هو شهادة ذاته. انتقيت «تقريرا عن حياة غاوري السريلانكية» للزميل حازم صاغية الذي يكتب في السياسة والتاريخ والأدب، وها هو هنا يقدم لنا في شريط مؤثر عالما يعيش فينا ونعيش على هامشه منذ عقود، ولا نعرف عنه شيئا.

قصة، أو يوميات، فتاة من سريلانكا، تهرب من بلادها حيث الفقر المطلق والعنصرية الاجتماعية إلى العالم العربي لكي تعمل بمائة دولار في الشهر، ترسلها إلى عائلتها. تتنقل غاوري بين الكويت ومصر ولبنان. وبين هذه البيوت يتنقل معها الطبع البشري.. فظاظة هنا، ود ومحبة هنا، جنون «سايكوباتي» هنا.

في جميع الحالات، غاوري سجينة وأسيرة وغالبا على حافة الهرب أو الانتحار. في الكويت يتهرب مخدومها من دفع راتب ستة أشهر ويتهمها بالسرقة. وفي الكويت أيضا تعاملها أسرة أخرى وكأنها جزء من العائلة. وعندما تسافر العائلة عائدة إلى مصر «تهربها» معها حيث تعيش في القاهرة عامين سعيدين. لكن عندما تسافر إلى أهلها لا تستطيع العودة إلى سعادتها بسبب صعوبة التأشيرة.

ينقلنا حازم صاغية هنا إلى حياة الحنان بين الأهل. فقد جمعت غاوري بعض المال وصارت تصرف على أمها المريضة وإخوتها. لكن المال نفد من جديد فنصحت هذه المرة بالسفر إلى بيروت: العائلة هنا مؤلفة من أم عجوز، يسكن ابناها، قاض وطبيب أسنان، في خارج المنزل. يتعامل الرجلان معها كأن لا وجود لها. حتى ليس كهرة في المنزل. أما الأم فتعاملها منذ اللحظة الأولى على طريقة الجلادين في السجون العربية: غرفة باردة في حجم زنزانة وبطانية وبيض أو بطاطا كل يوم. تتذكر غاوري كيف كانت تجلس إلى مائدة العائلة المصرية. تمر الأيام بائسة ومؤلمة. تحاول الهرب فيعتقلها الدرك. تتوسل الذهاب فتذكرها العجوز أنها دفعت «ثمنها» 2000 دولار. في النهاية تجد وسيلة للخروج من جحيمها. يتعب حازم صاغية في جمع التفاصيل ليقدم لنا صورة حزينة عن عالم يمر أمامنا كل يوم ولا نراه. لا يسميه عالما متوحشا. ربما يفعل ذلك في الفصل التالي.