مناطق نائية بلا أطباء

TT

بعض الواقع قد يثير الدهشة والاستغراب لدى عامة الناس، ولكن ربما قد يثير تبرير حصوله من قبل «الخبراء» دهشة واستغرابا أكبر لدى أولئك العامة من الناس، ما قد يدفع إلى تذكر المثل القائل «عذر أقبح من ذنب».

في جانب تقديم خدمات الرعاية الطبية، تفرض مبادئ الاحتياج وبديهيات التفكير أن يتوفر على أقل تقدير، لنساء سكان منطقة أو محافظة أو مقاطعة ما، طبيب واحد متخصص في أمراض النساء والتوليد obstetrician - gynecologists (ob - gyns) . ولكن ماذا لو أن النسوة هؤلاء في تلك المقاطعة لا يتوفر لهن هذا الاحتياج البديهي في وجود طبيب يهتم بمتابعة حملهن، وتوليدهن؟ التعليق الذي يلقيه أي إنسان عند سماع هذا الكلام هو من فصيلة «غريبة» أو «مثير للدهشة» أو ربما «مثير للاستهجان»، ولكن ماذا لو أن أحد «الخبراء الصحيين» تحدث إليهم وعلق بالقول: «لا مشكلة» أو «لا ضرر على هؤلاء النسوة الحوامل من هذا»!

المشكلة هذه ليست بالضرورة أن يتوقع البعض حصولها في مجموعة من المقاطعات النائية في إحدى الدول الآسيوية أو في مقاطعات براري إحدى الدول الأفريقية، بل ما تتحدث عنه الحقائق هو في الولايات المتحدة. ودعونا نراجع نتائج هذه الدراسة الطبية التي تم عرضها في 8 مايو (أيار) الحالي ضمن فعاليات المؤتمر السنوي للكلية الأميركية لأطباء النساء والتوليد American College of Obstetricians and Gynecologists (ACOG) الذي عقد في سان دييغو بولاية كاليفورنيا الأميركية. الدراسة قام بها الباحثون من جامعة نيو مكسيكو، ومن بيانات كل من الإحصاء القومي الأميركي لعام 2010 U.S. County Census File وجداول الخدمة لأعضاء الكلية الأميركية للنساء والتوليد، راجع الباحثون المعلومات المتعلقة بالنساء البالغات وفي مراحل عمر التناسل adult and reproductive - age women.. ومعلوم أنه منذ عام 1790 ينص القانون الفيدرالي الأميركي بإلزام إجراء الإحصاء القومي مرة كل 10 سنوات. ووجد الباحثون أن أطباء النساء والتوليد في الولايات المتحدة يبلغون نحو 33 ألفا و300 طبيب، ويمثلون نسبة 5% من مجمل الأطباء العاملين في جميع التخصصات الطبية بالولايات المتحدة والبالغ عددهم الإجمالي نحو 661 ألفا و400 طبيب. والمهم في «اكتشاف» الباحثين هو أن في 49% من المقاطعات الـ3143 مقاطعة الموجودة في التقسيم الإداري بالولايات المتحدة، لا يوجد طبيب نساء وتوليد واحد! وأن معدل عدد أطباء النساء والتوليد لكل 10 آلاف امرأة انخفض بشكل حاد. وأن عدد النسوة اللاتي في عمر التناسل واللاتي يعشن في مناطق «خالية» من أطباء النساء والتوليد يبلغ اليوم نحو 10 ملايين امرأة!

ورغم طرح هذه النتائج «الواقعية»، طرح «الخبراء» في الشؤون الطبية تعليقاتهم المثيرة للدهشة عليها. وعلى سبيل المثال علق الدكتور إرين تريسي، المتخصص في أمراض النساء والتوليد بمستشفى ماساتشوستس العام ببوسطن، بالقول: «هذه نتائج إحصائية ضاربة ولافتة للنظر، ولكني غير متأكد من مدى تأثيراتها الفعلية على كيفية وصول النساء إلى مرافق الرعاية الطبية في المناطق النائية». وكأنه غير متصور لمعاناة ذلك الزوج في نقل امرأته على وجه السرعة من مقاطعة إلى أخرى لتوليدها في مستشفى أو عيادة طبية يتوفر بها طبيب نساء وولادة، أو معاناته لنقلها للمراجعات الطبية المتكررة طوال فترة الحمل والتي تنص على النصيحة بها إرشادات الكلية الأميركية لأطباء النساء والتوليد.

هذا ناهيك عن معاناة أولئك الحوامل اللاتي لديهن تعقيدات ومخاطر صحية على سلامة الجنين أو الأم أو الحمل نفسه. وهي الأمور التي «استسهلها» بإضافته القول: «إذا لم يكن ثمة طبيب نساء وتوليد واحد في المقاطعة، فإنه لا بد أن ثمة طبيبا مماثلا في مقاطعة مجاورة، وهو ما بالتالي لن يؤثر على العناية الطبية بأولئك النسوة»! هذا رغم عدم وجود تأكيدات على توفر خطة واضحة لتوزيع الأطباء تضمن وجود طبيب نساء وتوليد واحد على أقل تقدير ضمن محيط مساحة جغرافية معينة.

وللتوضيح، حينما يتم الحديث عن أمراض القلب مثلا، يقال يتوفر طبيب أمراض قلب ضمن مساحة جغرافية معينة يضمن تقديم الخدمات القلبية الإسعافية لسكان منطقة ما، ويتوفر طبيب جراحة قلب ضمن مساحة جغرافية أوسع نظرا لأن الحاجة إلى جراح القلب هي «أقل» من طبيب القلب غير الجراح، ومن يحتاجون إلى جراحة في قلب يشكلون نسبة أقل بكثير ممن يحتاجون إلى طبيب قلب يعالج الجلطة القلبية بصفة مستعجلة أو يتابع مرضى صمامات القلب أو اضطرابات نبض القلب أو غيرها من الحالات القلبية المرضية.

وعليه فإن «عموميات» التعليقات غير المفهومة لـ«الخبراء الطبيين» لا تكفي، وخاصة إن كانت من نوعية تعليق الدكتور جيل رابين، رئيس وحدة الرعاية الإسعافية لأمراض النساء والتوليد للمركز الطبي بلونغ أيلاند في ولاية نيويورك، حيث قال حول نتائج الدراسة: «ولكن بالعموم يمكن العثور على طبيب نساء وتوليد ضمن مسافة معقولة لقيادة السيارة، ومع هذا لا يمكنني القول بكل ثقة إنه صحيح وممكن في كل حالة ومثل، ولكن بلا شك هناك نسبة من أطباء النساء والتوليد ضمن المدن الصغيرة أو متوسطة الحجم»!

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]