حديث عن البطالة!

TT

إذا كانت ثورات الربيع العربي قد كشفت عن مسائل وملفات كثيرة ومهمة ومعقدة، فلعل من أهم ما كشفت عنه حجم مشكلة البطالة والفساد وتبعات ذلك، وهشاشة ثقافة العمل الحالية في المجتمعات وفي قطاع الشباب تحديدا، وما حصل من تغيير هائل في ذلك عبر الوقت.

فالدول العربية أصابها جميعا داء الاقتصاد الربيعي الذي يعتمد الفرد فيه على منحة ليحيا ويعيش، وذلك عبر وسيلتين وأسلوبين أساسيين، إما تصدير أبنائه ومواطنيه للخارج للعمل والاعتماد بالتالي على تحويل الأموال وتأسيس ذلك كمصدر للأموال والنفقات، أو مباشرة من مصادر الطبيعة كالنفط والمعادن والموارد الطبيعية، مع عدم إغفال مصدر آخر يمكن أن يضاف وهو الهبات والأموال النافذة من خارج المنظومة التقليدية للاقتصاد.

ولعل من أسباب تدهور الوضع الاقتصادي لمنظومة العمل وتفاقم مشكلة البطالة بشكل كبير النظرة الدونية والرأي الاجتماعي المضلل في العمل الحرفي، فمؤخرا وفي السنوات الأخيرة تحديدا ظهر هوس مبالغ فيه بتمجيد اقتصاد الخدمات، وأصبح الانحياز السافر والمبالغ فيه لأفضلية اقتصاد الخدمات على غيره، وذلك بأنه أرقى وأجدر ومحقق للأرباح بشكل أسرع وممكن للمجد الشخصي بشكل أوقع.

وبدأت فكرة ازدراء مهن الصناعة والزراعة والحرفية من قبل قطاع الأعمال، وتفضيل مهن أنيقة ونظيفة عليها في التجارة والمصارف والاتصالات والسياحة والتسويق والترويج والدعاية والإعلان والتأمين والوساطة والعقار، لأن المهن «اليدوية» اقترنت بصورة ذهنية معينة تم تكريسها إعلاميا في كل الطبقات بعرق الجسد وطبقات التراب والغبار عليه والاتساخ والإنهاك والتعب والإرهاق والعلة والمرض والانكسار والدونية وضآلة المركز الاجتماعي بين الناس، وكرس ذلك الأمر بمفردات سرعان ما تم تداولها بقوة، والمفردات أكدت بالتالي كل هذه المعاني لتصف من يقوم بممارسة هذه الأعمال بأسماء مثل: شغيل، صانع، زبال، عربجي، عتال، سواق، فلاح، متسبب، يومياتي، مرمطون، ناطور، فاعل وغيرها، بدلا من تقديم المفردات الأكثر صدقية ودقة وأمانة والتي تعكس الواقع الحقيقي للمهن المقدمة والمؤداة، مثل: مزارع، موظف، خادم، عامل صناعي، عامل نظافة، حارس أمن، إلى آخره من العبارات المعروفة والمهنية المحترمة.

ومن دون استثناء، فكل المجتمعات العربية تعكس أسماء الأسر والعوائل فيها المهن لها، مثل: اللحام والجزار والتاجر والعطار والصباغ والخباز والحلاق والكلاس والقاضي والخياط والحايك والصائغ والمعلم والحكيم والفكهاني والخضري وغيرهم بطبيعة الحال.

لكن معظم هذه الأسماء ترك أفراد عائلتها العمل «اليدوي» الذي بنى اسم هذه الأسر، وهجرت أعداد كثيرة حيزا اقتصاديا محوريا في الخارطة الإنتاجية للمجتمع، وحدثت بالتالي بدايات الخلل، وتكونت بذور البطالة الأولية التي كبرت مع الوقت لتصل إلى معدلات قياسية خطيرة جدا وتكبر مع مرور الوقت، وقد أسهم هذا الأمر في تحول جذري إلى تعظيم ثقافة الاستهلاك والإلغاء «التدريجي» لفكرة ضرورة وجود «المنتج المحلي» لاستسهال استيراده بتكلفة أقل وجودة أقل ما دام المال موجودا، في ظل تغييب كامل لفكرة أهمية إبقاء منظومة الإنتاج واحترامها ودعمها على كل الأصعدة والمستويات والمناطق.

وأصبح الاقتصاد اليوم هو صورة للاقتصاد الثري بعوائده، لكنه الخالي من الإنتاج والتوظيف والقيمة المضافة خصوصا ذات الصدى الاجتماعي الملحوظ، والمهم جدا الدول الصناعية الكبرى مع جل اهتمامها بالخدمات والاقتصاد الخدمي، وكذلك استثماراتها المهمة في الاقتصاد الرقمي الجديد، إلا أنها كلها ومن دون استثناء تظل دولا زراعية في المقام الأول، وصناعية أيضا، وهذان القطاعان يشكلان رقما مهما وصعبا من إجمالي الناتج القومي ولا يمكن إغفاله ولا الاستهانة به أبدا، لأن مغريات الاقتصاد الخدمي مهما كانت مبهرة ومبهجة تظل وحدها غير كافية أبدا لإحداث النقلة النوعية الكافية لتشكيل منظومة اقتصادية متكاملة في دول ذات تعداد سكاني كبير ومتنام وبفئات عمرية شابة.

مشكلة البطالة في العالم العربي بحاجة لأن توجه لها نظرة جديدة وقديمة في آن واحد، تتم فيها إعادة بناء الثقة في قطاعات بسيطة أهملت على الرغم من أنها كانت ناجحة وأثبتت جدارتها في الماضي غير البعيد وتستحق زيارة جديدة وبحسن ظن استثنائي!

[email protected]