فمهجتي في يديكِ

TT

في مثل هذه الأيام، 1991، غاب محمد عبد الوهاب، عن نحو 90 عاما. بدأ الغناء وهو في العقد الأول، وربما في منتصفه، وكان عندما يغني للجيران، ينهره الأهل، وخصوصا شقيقه، الشيخ حسن. لكن الفتى الصغير تاه في المسارح. وعندما وضعه شقيقه عند خياط يعمل لديه، وقعت المصيبة. فقد كان الترزي يحب الطرب ولا يكف عن مطالبته بإنشاد موال الشيخ سلامة حجازي «عذبيني في مهجتي، فمهجتي في يديكِ/ وأمريني فالقلب طوع يديك».

كان ذلك زمن سيد درويش وأحمد شوقي. وقد جمعه القدر بهما. الأول علمه الموسيقى والثاني علمه الحياة، وأدخله قصور مصر وكتب له أجمل الشعر يغنيه. كانت حياة الناس متشابهة في تلك الأيام. وكما بدأت أم كلثوم الغناء في الموالد، بدأ عبد الوهاب يلمع في الأعراس. وفي الحفلات الكبرى لفت أنظار النساء بوسامة الوجه وصفاء الحنجرة. وهذا الفتى الذي لم يكف عن التعلم حتى ختام العمر، سوف ينقل الفن الغنائي من عصر معلميه إلى عصره. من سلامة حجازي وسيد درويش والشيخ أحمد حسنين إلى آلات القرن العشرين. بل فعل ما هو أهم بكثير: نقل الغناء من الطرب والبيوت إلى السينما فقصرت معها الأغنية، بحيث تساعد الصورة في إثارة مشاعر المتفرجين.

كانت مهيبة سلامة، أمي، تردد أغاني عبد الوهاب في أرجاء المنازل التي تنقَّلنا فيها. كان صوتها جميلا مثل عينيها الخضراوين. وعندما غابت، وأنا بعد في العاشرة صرت عندما كبرت أحب أغاني «الموثيقار» الكبير. وكنت أحضر أفلامه لأسمعه يغني «أيها الراقدون تحت التراب». وحين ينتهي الفيلم في تلك المرحلة الرومانسية، كان الحاضرون يخرجون وعيونهم متورمة، كأنما جاءوا جميعا يبكون أماً لن تعود.

كان عبد الوهاب أستاذا في كل شيء. في الموسيقى وفي الغناء وفي الذوق وفي الثقافة وفي آداب الحياة. لم تعامله الدنيا كمغن بل كواحد من أعمدة زمانه، كما عاملت شوقي وأم كلثوم وأحمد رامي. ذات مساء في النادي الدبلوماسي في القاهرة، كان يقام حفل مثل هذه الأيام، في ذكرى أحمد بهاء الدين ومحمد عبد الوهاب. وكان مطرب الحفل صفوان بهلوان، النسخة طبق الأصل عن الموسيقار. فطلبت مني عائلة عبد الوهاب أن أختار أنا الأغاني التي يؤديها صفوان. واخترت الأغاني التي كانت ترددها أمي، لكي تبعد عنا صوت الريح في الخارج وتبدد عنا شعور الوحدة في الداخل. عندما تعرفت إليه في لندن لم أحب أن أروي له كم كان حاضرا في حياتنا. فهو يعرف أنه كان حاضرا في حياة الأجيال. يرثه الأبناء مع ذكرياتهم وروعة الحياة ومتاهة الفقدان. ويظل في كل الحالات نغما جميلا وعزاء باقيا من البعيد. وعندما التقى مع أم كلثوم في «انت عمري» عام 1964، كنت قد صرت عاشقا ومولها ومشردا في أنغام الجمال. ومنذ ذلك الوقت وهي أجمل أغاني العمر.