عندما تطبق الثورة عكس مبادئها!

TT

حين يطالع القارئ هذه السطور، سوف نكون على مسافة 72 ساعة من أول انتخابات رئاسية في القاهرة، بعد الثورة، وبما أننا نتكلم عن «ثورة» ثم عن أول انتخابات بعدها، فمن الطبيعي أن نتساءل عما إذا كانت مبادئ هذه الثورة متحققة في انتخاباتها الرئاسية أم لا؟!

أطرح السؤال، وفي ذهني ما كان إحسان عبد القدوس قد كتبه عام 1986؟ عندما وضع كتابا في ذلك التاريخ، متسائلا بدوره فيه، عما إذا كانت مبادئ ثورة يوليو 1952 الستة الشهيرة، قد تحققت كلها، أو بعضها، بعد 34 عاما من قيام «يوليو»؟ أم أن المبادئ الستة بقيت في مكانها لا تتحرك ولا تتحقق في حياة الناس.

لو أنت تناولت كتاب إحسان، ثم تصفحته سريعا، فسوف تكتشف أن الإجابة عن السؤال المطروح في أولى صفحاته، كانت بالسالب في آخر صفحة، وأن صاحب الكتاب عندما راح يستعرض المبادئ إياها، مبدأ وراء مبدأ، لم يقع على شيء منها في حياة المصريين!

ما نعرفه، أن ثورة يناير 2011؟ كانت لها مبادئ ثلاثة، ابتداء من «الحرية» ومرورا بـ«الكرامة الإنسانية» وانتهاء بـ«العدالة الاجتماعية» وهي كما ترى، تكاد تتشابه مع مبادئ ثلاثة أخرى، كانت الثورة الفرنسية قد قامت عليها نهاية القرن الثامن عشر، وهي: الحرية، الإخاء، المساواة.

لكن.. ما يلفت النظر بقوة في مبادئنا الثلاثة نحن، عام 2011؟ أنها شأنها شأن الثورة، لا تستند إلى قوة أو قيادة تستطيع أن تعمل طول الوقت على تحقيقها، بحيث لا تتوه وسط زحام التفاصيل، وبحيث لا تنحرف عن مسار الثورة ذاتها.

وقد كان من نتيجة ذلك، أننا نقرأ يوما بعد يوم، أشياء منسوبة إلى الثورة، لا يجوز أن تنتسب إليها.

إننا لو تصرفنا بمنطق سقراط، الذي كان أول ما يفعله قبل الانخراط في أي كلام، أنه كان يحدد ابتداء معاني الكلمات التي سوف يدور حولها أي حوار.. لو أخذنا بهذا المنطق، فإن علينا أن نتساءل عن معنى المبدأ الأول من مبادئ الثورة، وهو «الحرية».. وسوف لا يختلف اثنان، في ظني، حول معنى هذه الكلمة، أو هذا المبدأ عموما.. إذ هو يعني، فيما يعني، حق كل إنسان في أن يعبِّر عن رأيه، كما يشاء، بشرط أن يقترن هذا التعبير عن الرأي طبعا، بالمسؤولية.. بمعنى ألا يؤدي تعبيرك عن رأيك، إلى إلحاق أذى بغيرك!

إذا اتفقنا على هذا، وأعتقد أننا سوف نتفق، فإن علينا أن ننتقل، بعد ذلك، إلى الشق الثاني الأهم، وهو أن نبحث عما إذا كان معنى هذا المبدأ، بهذا التحديد الواضح، قائما على الأرض، أم أن ما هو قائم، يكاد يكون على العكس منه تماما!

المراجعة السريعة لما قيل، ولا يزال يقال، طوال أيام مضت، من جانب قوى ثورية منتسبة إلى ثورة، تجاه مرشحين رئاسيين مطروحين في الملعب السياسي على الناخب، ينطق بأن ما قامت الثورة من أجله، وما نادت ولا تزال تنادي به، بعيد عما تمارسه قوى ثورية، وتقوله باسم الثورة!.. وإلا.. فما معنى أن يقال على لسان هذه القوى إن فلانا من بين المرشحين الرئاسيين، إذا نجح، فسوف نقوم وندعو إلى ثورة ثانية ضده، لا لشيء، إلا لأن ذلك المرشح محسوب في عُرف الذين لا يؤيدونه، على نظام الرئيس السابق حسني مبارك بشكل أو بآخر!

لا أتكلم هنا عن المرشح الرئاسي إياه، وإنما أتكلم عن الناخب الذي قد ينتخبه، ثم يفاجأ هذا الناخب نفسه، بأن الذين قاموا بالثورة، في يناير (كانون الثاني) 2011؟ أو بعضهم على الأقل، يعاقبه، لأنه كناخب، مرة أخرى، قد راح يمارس حقه في اختيار المرشح الرئاسي الذي يراه، ويقتنع ببرنامجه ويعجبه تفكيره!

أين، إذن، مبدأ الثورة الأول هنا، إذا كان الناخبون الذين سوف يختارون مرشحهم الرئاسي، على غير ما تحب القوى الثورية المدافعة عن الثورة، سوف يواجهون عقوبة جماعية تتمثل في الدعوة إلى ثورة ضد مرشحهم بعد فوزه؟! هل نعاقب، هنا، المرشح، أم نعاقب الناخبين أنفسهم، وننكر عليهم حقهم في الاختيار الحر، ونمارس وصاية مسبقة على عقولهم، ونخيرهم بين أن يختاروا المرشح الذي نريده نحن، كقوى ثورية، وبين أن نثور على مرشحهم الذي اختاروه، بمحض إرادتهم، ومن خلال صندوق الانتخابات وحده؟!

إن ميزة الديمقراطية كعملية مكتملة، أنها قادرة، من خلال أطرافها المختلفة، على أن تصحح نفسها بنفسها، وأن تستعيد توازنها في مرة لاحقة، بعد أن تكون قد افتقدته في مرة سابقة، ويظل ممارسوها عبر طريق طويل من التراكم، يخطئون، ويصححون، حتى يصلوا في النهاية، إلى صيغة هي الأفضل، لا الأمثل.. فلم يصل العالم، بعد، إلى صيغة مثالية من الديمقراطية، في اختيار الحكام.

لذلك، يبدو الذين يعترضون على اختيار الناخبين لمرشح معين، وكأنهم، أقصد المعترضين من بين قوى الثورة، يعتقدون في قدرة المواطن الناخب على الاختيار الدقيق والموفق، من أول مرة.. وهذا بطبيعة الحال، غير صحيح.. فالممارسة وحدها، ثم مداها الزمني، وعمقها، ونضجها، هي مجتمعة التي تحدد، كعناصر متكاملة، إلى أي حد يستطيع المواطن أن يصيب، حين يكون عليه أن يذهب إلى صندوق الاقتراع ليختار.

لا نزال في «سنة ثانية ثورة» إذا جاز التعبير، وأمامنا فرصة كبيرة في اتجاه تجسيد مبادئ الثورة على الأرض، وعلينا في الوقت نفسه أن نتعلم من تجربة ثورة يوليو، ومن تجربة إحسان عبد القدوس معها، بكتابه المهم «البحث عن الثورة» حتى لا يدور الزمان دورته، وتمضي 34 عاما أخرى، مثل تلك التي كانت قد مضت بين إحسان وكتابه من ناحية، وبين «يوليو» من ناحية أخرى، ليتبين لنا، وقتها، أن ثورة يوليو، كتجربة، لم يكن لها عائد، في مسيرة ثورة يناير، وأن ما كان عبد القدوس يبحث عنه، في جدوى «يوليو» عام 1986؟ يمكن أن نظل نحن نبحث عنه، بالكيفية ذاتها، في حصيلة «يناير»؟ مع ما بين الثورتين من سنين طوال، لا يليق بنا أن تمر دون حصيلة علمية في حياتنا.. الثورة تقوم، لتطبق مبادئها، لا لتنحرف عنها، مع مرور الوقت، ولا لتذهب إلى عكسها، ربما دون أن تدري!