الطرب العربي

TT

الواقع أن هذه الصفة «العربي» من لغو الكلام. فالطرب لا يمكن أن يكون إلا عربيا. إنه صفة من صفات المواطن العربي. لهذا فليس لها مرادف في اللغات الأخرى. القاموس العصري يعطي rapture وecstasy كترجمة للطرب. ولكن هاتين الكلمتين لا ترتبطان بالضرورة بالغناء والموسيقى كما يرتبط الطرب. فهذه حالة أقرب ما تكون إلى الجنون والغياب عن الوعي بسبب الاستماع للغناء. يعطينا كتاب «الأغاني» نماذج منها. يروي مثلا أن الهادي لم يتمالك غير أن يشق ثوبه طربا بعد سماع إبراهيم الموصلي يغنيه:

وإني لتعروني لذكراك هزة

كما انتفض العصفور بلله القطر

ثم غناه قطعة أخرى فمزق جبته وأخيرا مزق كل ثيابه وتعرى طربا كالمجنون وأمر وزيره بأن يأخذه لغرفة بيت المال ليأخذ منها ما شاء!

وبمثل هذا الجنون وقع الأمين بعد أن سمع أحد المغنين يغنيه شيئا من شعر أبي نواس فوثب من مجلسه وركب على المغني وأخذ يقبل رأسه ثم أمر له بعشرين ألف درهم. وهذا أهون مما فعله والده هارون الرشيد الذي لم يتمالك غير أن يعين المغني الذي أطربه واليا على مصر. وهو والله أهون بكثير ممن تولوا شؤون مصر دون أن تكون لهم حتى هذه الموهبة.

ولا بد أن نتذكر أن مثل هذا ما كان يفعله الكثير من أبناء جيلي عند سماعهم لأم كلثوم. تراهم يضربون رؤوسهم ويلطمون على صدورهم عند سماعها. أتذكر موظفا كبيرا في بغداد كان يخلع حذاءه ويضرب به على رأسه ويصرخ «اويلاه!» كمن مسه الجن عندما يسمعها تطلق شيئا من آهاتها الشهيرة. نعم لقد جننت أم كلثوم كل المواطنين العرب وزعماءهم بحيث تصوروا أن اشتراكهم في الطرب منها يؤهلهم لتحقيق الوحدة العربية.

يحقق المغني العربي حالة الطرب في جمهوره بدمج هذه العناصر الثلاثة التي تستأثر بعواطف كل مواطن: أولا الإيقاع السحري والقافية في الشعر، ثانيا النغم الموسيقي، ثالثا المعنى المفيد والمثير. لهذا لا تتحقق حالة الطرب عندما نسمع قطعة موسيقية مجردة مهما كانت رائعة في تلحينها وعزفها. لا بد من مصاحبتها بالكلمات. ولا بد من مطرب يحسن أداء الكلمات ويوصل معناها البليغ للسامع، وهو ما تفتقده الكثير من مطربات هذه الأيام.

هذا سر تألق أم كلثوم وارتباط اسمها بحالة «الطرب» الجنوني التي أشرت إليها. لم أسمع أحدا يحسن التعامل بسحر الكلمات مثلها. وكان من حسن حظنا أن صاحبها شعراء بلغاء كرامي وملحنون عباقرة كالسنباطي والقصبجي.

«ما أضيع اليوم الذي مر بي... ما أضيع اليوم الذي مر بي... ما أضيع اليوم الذي مر بي..».

تظل تعيد بهذا الشطر وتلوك بكلماته ثلاثا ورباعا كما يفعل الملاكم البطل الذي يلوح بقبضته يمينا وشمالا قبل أن يسدد لكمته القاضية: «من غير أن أهوى وأن أعشقا!» فيخلع صاحبي قندرته ويضرب بها على رأسه. ومعه يضرب ملايين المستمعين العرب على رؤوسهم. إنه سحر الطرب العربي الذي أجادته هذه المرأة، أسكنها الله فسيح جنانه.