المفتاح السحري للقلوب

TT

الكل يعلم أن ظروف اليمن الشقيق هي (أصعب من الصعبة) لعدة عوامل ليس هنا مجال لذكرها، غير أن ثقتي بالإنسان اليمني (أكبر من الكبيرة)، وذلك لأن هذا الإنسان يتحلى بصفات من النادر أن تجتمع في إنسان آخر، منها: المثابرة وعدم التردد والتفاؤل إلى حد ما.

والإنسان اليمني بطبعه صاحب مزاج، وصاحب فكرة، ويهوى العمل اليدوي ولا يتذمر منه، لهذا تجده يهوى الفن بجميع أشكاله من الغناء إلى الرقص إلى العمارة إلى الشعر، وعلى الرغم من صعوبة تضاريس بلاده فإنه لم يقف مكتوف الأيدي، فقد حول جباله الشاهقة إلى مدرّجات تتلون وتميد بالخضرة.

وعندما يسافر ويهاجر الإنسان اليمني إلى أي بقعة من بقاع العالم سواء إلى آسيا أو أفريقيا أو أوروبا أو حتى أميركا، تجده دائما نشيطا وعاملا ومن النادر أن يكون عاطلا أو مستكينا.

وأذكر عندما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية بمدرستي الداخلية، كان هناك شاب يماني يعمل حارسا بالمدرسة، وبعد فترة استقال من عمله وعرفنا أنه هاجر إلى أميركا، ويبدو أن هناك أقارب أو أصدقاء قد زينوا له ذلك.

وبعد بضعة أعوام عاد إلينا لزيارة مكان عمله السابق، وكنت وقتها قد وصلت إلى المرحلة المتوسطة من دراستي، وتفاجأنا جميعا بالاختلافات الجوهرية في مظهره وشخصيته، وإذا به يتحدث الإنجليزية بطلاقة، ويناقش الأساتذة الند للند بمواضيع مختلفة كأي مثقف مدرك، وهو كان قبل ذلك (بالكاد) يفك الحرف، ولا أنسى الصور التي عرضها علينا عندما كان يعمل في مصانع السيارات (بدترويت) ومن ضمنها صوره له مع فتاة شقراء، لا أدري ما هي (خانتها من الإعراب)؟! وقال فيما قال إنه حصل على (الغرين كارد)، ولأول مرة أسمع بهذا الاسم، وأروع ما في الموضوع أنه أحضر معه هدية للمدرسة هي عبارة عن لوحة كبيرة لمنظر طبيعي جميل ومؤطرة ببرواز مذهب ثمين، تقبلها منه المدير شاكرا، وعلقها فيما بعد في مكتبه بالإدارة.

ومن ذكرياتي أيضا بعد أن كبرت وأصبح عندي سيارة، أنني وأصحابي كثيرا ما كنا نتردد على محطة الوقود التي في حارتنا عندما نريد أن نعبئ سياراتنا (بالبنزين)، وكان العامل هناك شابا يمنيا نشيطا ودائم الابتسامات والمداعبات، وكلما شاهد زبونا جديدا أول ما يسأل عن اسمه، وكنا نتعجب من ذاكرته العبقرية، فأول ما يعرف اسم الشخص لا ينساه أبدا (حتى لو تردد عليه ألف مرة)، وتراه يتقافز بين السيارات، صائحا بكل واحد وهو يضحك قائلا له: أهلا يا عم (فلان)، وحصلت بيننا وبينه ألفة إلى درجة أن أحدنا، وكان والده ثريا، عرض عليه أن يعمل عنده في محطة وقود جديدة يزمع أن يفتحها، فوافق على شرط أن يكون شريكا معه بالجهد، وتم الاتفاق بينهما ونجحا نجاحا منقطع النظير ولهما الآن سلسلة من المحطات قوامها (18) محطة، (والحبل على الجرار).

وقبل فترة جلسنا في سهرة عشاء، فسألت العامل السابق الذي أصبح الآن صديقي، عن سر ذاكرته المذهلة تلك! وبعد تردد صارحني أنه كان عندما يسأل أحدا منا عن اسمه، يذهب ويفتح غطاء (التانكي) ويلصق فيه من الداخل ورقة (ستكر) ويكتب عليه اسمه، وهكذا وبهذه الطريقة الذكية المحببة استطاع أن يكسب الناس.. عندها لا أملك إلا أن أقول بيني وبين نفسي: يا الله كم أنا مغفل!!

ثم قال لي كلمة لا يمكن أن أنساها: إنه ليس هناك كلمة تستميل بها الإنسان الآخر إليك أكثر من أن تناديه باسمه مقرونا باللطف، فاللمسة الشخصية هي المفتاح السحري للقلوب.

[email protected]