رائد الصوت والوتر

TT

المعتاد في العازفين الموسيقيين أن يعزفوا ولا يغنوا. والمعتاد في المغنين أن يغنوا ولا يتكلموا ومن يتكلمون يتكلمون ولا يسمعون. الموسيقار العراقي الكبير إحسان الإمام شذ عن هذه القاعدة. حضرت مؤخرا في المقهى الثقافي العراقي أمسية له، فوجدته يعزف على العود ويثيرنا بعزفه ويغني فيطربنا بصوته، ويحاضر فيزيدنا علما ومعرفة بالفنون الموسيقية. ولا عجب، فقد كان أستاذا للموسيقى الشرقية في جامعة لندن. وهكذا جمع بين يديه الفرسان الثلاثة (الصوت والوتر والقلم). فطوبى له ولمن يسمعه.

كانت أمسيته محاضرة عن فن الموشح الأندلسي. استفاض في الموضوع فشرح لنا كيف تطور هذا الفن في الأندلس. وحار الباحثون في أصوله. كان منهم، وعلى الغالب، المستشرقون الغربيون، من رأوا أن عرب الأندلس استمعوا للغناء والشعر اللاتيني الذي سماه العرب بالليطيني للسكان الأصليين، وتأثروا بألحانه وقوالبه وخرجاته، التي تستجيب لمتطلبات الرقص والغناء. وهكذا استوحى شعراء الأندلس نظم الشعر منها، وتوصلوا إلى صيغة الموشح.

بيد أن علماء المدرسة العربية ذهبوا إلى غير هذا الرأي. قالوا إن الموشح مجرد تطور طبيعي للقصيدة العربية جرى في المغرب كما جرى في المشرق، حيث ظهرت في كل مكان صيغ جديدة للشعر، كالزجل والمواويل. بيد أن الأندلسيين تميزوا بشكل خاص بأنماط الموشح بسبب استعمال آلات موسيقية مختلفة عما كان سائدا في المشرق من آلات. وفي رأيي، فإن العنصر الأهم من ذلك في تطوير الموشح هو الرقص الذي ارتبط دائما بفنون الشعب الإسباني، ولا بد أنه أثر في إعطاء الموشح هذا الإيقاع الراقص.

أيها البدر الذي طاف السما

فوق كل الأرض أصبحت الأمل

خبر الأحباب عن قلب ظما

وشفاه غادها كأس القبل

غناها إمام العود بصوته الرخيم الهادئ، ولكنه على هدوئه لا يتردد في التحليق من القرار إلى الأوج فيكهرب أسماع السامعين. بعد سلسلة من الموشحات الأندلسية، عاد بمركبته من أقصى المغرب إلى قلب المشرق، بغداد التراث العباسي وبيت زرياب وموطن العود. فراح يتنقل بين البستات العراقية الشعبية:

إن شكوت الهوى فما أنت منا، بقهوتك عزاوي فيها المدل زعلان، وفراقهم بكاني... إلخ. ألقاها إحسان الإمام بنفس النبرة، واللكنة البغدادية، وكأنه لم يفترق عن عاصمة الرشيد كل هذه السنوات الطوال في منفاه في عاصمة الإنجليز. الكتابة عن هذا الموسيقار المبدع عيب وعدوان فسماعه هو الحق والوجوب.