كيف تخرج مصر من النفق المظلم؟

TT

اتخذت الانتخابات الرئاسية في مصر نهجا يجعل منها صراعا وجوديا على السلطة، يظن منه الفريق الفائز أنه حصل على كل شيء، ويندم فيه الفريق الخاسر على ضياع كل شيء. ويعود ذلك أساسا إلى غياب معايير واضحة ومحددة للمرحلة التي تلي العملية الانتخابية. لا تزال الأمور غامضة حول من يستحق التمثيل في اللجنة التأسيسية لوضع الدستور وبأي نسبة؟ ما صلاحيات الرئيس القادم وما طبيعة علاقته بالسلطتين التنفيذية والقضائية؟ وما الدور الذي ممكن أن تلعبه القوات المسلحة سياسيا بعد التسليم الرسمي للسلطة في 30 يونيو (حزيران) المقبل؟ المناخ التنافسي تعكسه توجهات المرشحين، فمن أبرزهم مرشحو التيار الإسلامي، والمنتمون للنظام السابق، وكذلك الذين ينتمون للحركة الاحتجاجية أو الثورية. ولكن خلف المشاحنات الانتخابية، تكمن فرصة قد تكون الأخيرة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ لتحول سياسي حقيقي وآمن إلى نظام سياسي ديمقراطي ومستقر.

على الرغم من الاستقبال الشعبي الحافل الذي حظي به المجلس الأعلى للقوات المسلحة إبان تنحي محمد حسني مبارك من منصبه، فإن حجم وعمق التأييد الشعبي له أخذ في التراجع النسبي نتيجة تدخله الشديد والمستمر في الأمور السياسية واتخاذ السلطات إجراءات اتسمت أحيانا بالعنف ضد المتظاهرين السلميين وكذلك اتباع أسلوب إدارة متردد ومتناقض مع ذاته (مثل تأييد الثورة ومعاداة الثوار). ولكن المجلس العسكري كان في واقع الأمر مضطرا لسلوك هذا المنهج، فهو يجد نفسه محاصرا بين المطرقة والسندان.

في تاريخ مصر الحديث، اعتبرت القوات المسلحة نفسها الكيان الوحيد صاحب الخبرة والقدرة والحنكة لحماية مصر سياسيا وعسكريا من الأخطار الخارجية والداخلية. ولكن القوات المسلحة تجد نفسها مجبرة على التجاوب مع المطالب المتزايدة من أجل إصلاحات سياسية جذرية وعاجلة، وكذلك مع الصعود السياسي لحركات الإسلام السياسي التي طالما خضعت للقمع في العقود الماضية. هذه التطورات لا تتلاءم مع الطبيعة المحافظة والمفضلة للاستمرار والاستقرار التي تتمتع بها المؤسسة العسكرية.

المجلس الأعلى لا يبدو - كما كرر مرارا - أنه راغب في الحكم، ولكن مع تردي الأوضاع على حدود مصر الجنوبية في السودان والغربية في ليبيا والشرقية في غزة وكذا الأوضاع الداخلية، تستشعر قياداته القلق من إيكال هذه المهمة إلى مدنيين قد يفتقرون إلى الخبرة ولا تثق بهم نتيجة المشاحنات السياسية معهم أثناء المرحلة الانتقالية. كما يرفض أي محاولة لإنهاء وضع القوات المسلحة الخاص في الدولة الذي يتضمن ميزانية لا تخضع في معظمها لإشراف السلطات المدنية وشبه حصانة من الوقوف أمام القضاء المدني وكذا امتلاك مشاريع اقتصادية عملاقة. وفوق هذا وذاك، قد لا يرغب المجلس العسكري في رؤية نفوذه السياسي يتلاشى كما تطالب الحركة الاحتجاجية، أو أن يرى سيطرة فصيل سياسي واحد على كافة مقاليد الحكم.

على الرغم من وقوفه على هرم السلطة لمدة تقرب من سنة ونصف، لا يبدو المجلس الأعلى في موقف يقربه من تحقيق أهدافه بسهولة. فقد أدت تدخلاته لصالح أهداف أطراف سياسية بعينها (بالوقوف مع الإسلاميين في الاستفتاء الشعبي ثم مع العلمانيين في وضع الدستور) إلى إجماع جل القوى السياسية في مصر على معاداته هو ذاته وبغض النظر عن خلافاتها البينية. الآن، يحتدم الصراع ما بين المجلس العسكري من جهة وجماعة الإخوان المسلمين من جهة أخرى. تخوفا من تلاعب قد يحدث في نتائج الانتخابات أو محاولة لفرض نظام رئاسي قوي في ظل تعرقل جهود إنشاء جمعية تأسيسية للدستور، اندفعت الجماعة إلى الدفع بمرشحين رئاسيين، مخالفة بذلك تعهداتها السابقة بعدم ترشيح أحد أعضائها للمنصب. لا يرغب أي الطرفين في الدخول في مواجهة مباشرة، ولكن كلما اقترب موعد انتهاء المرحلة الانتقالية وفي ظل غياب أسس دستورية حاكمة للعلاقة بين مؤسسات الدولة، أصبح التراجع خيارا مستبعدا.

ولكن، لم يسبق السيف العذل. تحتاج قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة للقيام بما كان ينبغي لها القيام به منذ بدء المرحلة الانتقالية: الدخول في حوار جدي وفوري مع كافة أطراف العمل السياسي من إخوان مسلمين وسلفيين وثوريين.. إلخ للتصالح حول شكل وطبيعة مؤسسات الدولة المصرية وعلاقاتها في ما بينها عقب تسليم السلطة وحتى كتابة دستور توافقي جديد. لا يمكن ترك مسائل جوهرية مثل سلطات الرئيس والبرلمان وتشكيل الحكومة واللجنة التأسيسية والعلاقات المدنية العسكرية، لأنها أمور خلافية قد تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي الذي يترتب عليه عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي أيضا.

الآن وليس غدا، تحتاج مصر إلى بناء إجماع وطني للتخلص من حالة الشلل الاقتصادية التي أصابت الدولة عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير. تلك الحالة قد تعصف بقدرتها على الانتقال السلس والآمن إلى نظام سياسي أكثر استقرارا واستجابة لطموحات ومطالب الشعب المصري الذي قام بالثورة ويطمح إلى نيل الحرية السياسية أو أولئك الذين يأملون فقط كسب أقواتهم وعلاج مرضاهم.

مع الأسف، الوضع الذي يسبق الانتخابات الرئاسية لا يبشر بخير ولا يدل على قدرة الأطراف المختلفة على تجاوز خلافاتهم الضيقة ومصالحهم المباشرة. فبعد التراشق بالبيانات بين جماعة الإخوان المسلمين والمجلس العسكري، ثار جدل واسع حول ترشح ثم استبعاد خيرت الشاطر وحازم أبو إسماعيل وعمر سليمان. وتفرقت القوى السياسية حول هوية مرشح الرئاسة، كما عاد الاستقطاب الآيديولوجي بقوة حول دور الإسلام والشريعة في الحكم. إلا أن الوقت لم يفت بعد لكي يقود المجلس الأعلى للقوات المسلحة محاولة أخيرة للم الشمل وتوحيد الجهود، وذلك بالتوافق على مصالح وأهداف مشتركة تسمح للتحول السياسي بأن يكون سلسا وآمنا وديمقراطيا، ولا تهدد أيا من أطراف العملية السياسية، ومن ضمنهم المجلس العسكري. إذا لم يحدث ذلك، فقد تتلبد سماء مصر السياسية بالغيوم ويصبح الوضع أكثر ضبابية مما هو عليه الآن. وهذا لن يفيد أحدا على الإطلاق.

* محلل في شؤون الشرق الأوسط لدى مجموعة الأزمات الدولية