حماية الاعتدال السني الشامي

TT

بعد نحو عام على اندلاع الثورة السورية الشعبية ضد النظام الأمني الأسدي، حيث انطلقت شرارة الثورة في مارس (آذار) 2011، عجزت الأجهزة الأمنية الأسدية، بكل تشكيلاتها، عن قمع الغضب الشعبي، وإيقاف المد.

اليوم المشهد شديد الخطورة والتعقيد، ولولا «التخاذل» الأميركي والأوروبي، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، حيث تم تسليم القياد الدولي كله للقيصر الروسي بوتين، ومعه التنين الصيني، ومعلوم مدى رهافة حس القيصر والتنين تجاه حقوق الإنسان!

سبق أن قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن جميع الخبراء وأهل القرار في الغرب يوافقون الروس في إدارتهم للأزمة السورية، طبعا خلف الأبواب المغلقة، وأن الكلام العلني الإعلامي هو للاستهلاك فقط.

خلاصة هذه المقاربة، هي أن النظام الأسدي هو أنسب الحلول بالنسبة لإسرائيل، وبالنسبة لتحجيم القوة الإسلامية في هذه المنطقة، بعد قضم القوى الأصولية لتفاحة الثورة وزهور الربيع العربي من المغرب إلى مصر.

البديل، وفق هذه المقاربة الروسية - الغربية، هو نظام غير مضمون، بينما الأسد، مع إضعافه قليلا، هو الأفضل، حيث يقف حاجزا أمام هذا المد السني الأصولي، الذي لو تمكن من بلاد الشام، فستصل أمواجه إلى عتبات الساحة الحمراء في موسكو، حيث تكون الشعوب الإسلامية «السنية» جزءا كبيرا من نسيج الاتحاد والكومنولث الروسي.

هذه هي « زبدة» المنطق، في الممانعة الروسية، مع مقاومة التفرد الأميركي طبعا بالقرار الدولي، لكن هذا جزء يخص المزاج الروسي، بينما «المشترك» بينهم وبين الأوروبيين والأميركان، هو الرغبة في إبقاء نظام مضمون بجانب إسرائيل، والرغبة في إيقاف المد السني عند هذا الحد.

حسنا، مضى الآن قرابة العام على بداية الثورة السورية، وواضح أن كل «ألاعيب» المجتمع الدولي، والجامعة العربية لم تجدِ نفعا، لا بعثة الجنرال السوداني الدابي، ولا خطة عنان، ولا بعثة الجنرال مود وجنوده المساكين من ذوي القبعات الزرقاء.

ها هي «الانفجارات» تدخل على الخط، بعد أن كانت البداية فقط من خلال التجمع والتظاهر والهتاف، الآن تدخل المفخخات، بعد البنادق. وها هي النار تنتقل إلى لبنان الذي يتلظى بنار الثورة السورية من طرابلس إلى بيروت، في بروفة حرب أهلية مصغرة، وربما تتدحرج كرة النار أكبر من ذلك.

هل أجدى التخاذل الدولي والرهان على الوقت؟

لا، وسيزيد التطرف الثوري، وسيكون أكثر أصولية وسنية، بسبب منع النجدة الدولية عن الثورة.

ما يخشاه الغرب من «تطرف» الثورة، إن هو غذاها وسلحها ودعمها، حصل بسبب منع هذه التغذية والدعم والتسليح، أي إنه حصل عكس ما يريده الغرب، ومعهم الروس أيضا.

تخيل التالي، شخص سوري سني ثوري، لكنه معتدل وغير متطرف، وشخص آخر سوري ثوري ولكنه متطرف سنيا، يتحاوران حول وجوب إبقاء الثورة في ثقافة وطنية جامعة تتعالى على النزعات الطائفية، المتطرف ينادي بوجوب رفع البيرق السني الجهادي ضد العلويين والكفرة والباطنيين والصليبيين، بينما المعتدل الثوري ينادي بوجوب رفع اللواء الوطني المتحضر، وأن الثورة هي ثورة إنسانية أخلاقية وطنية، وليست ثورة جهادية أصولية.

المتطرف: نظام الأسد يقتلنا ويفتك بأطفالنا ويهدم دورنا، لأننا سنة، وهو يكرهنا لأجل ذلك، وكان يكتم كراهيته فقط لأننا كنا خاضعين.

المعتدل: أبدا، النظام يفتك بنا لأننا نريد كرامتنا وحريتنا، دون تفريق بين سني ومسيحي ودرزي، وحتى علوي، ودون تفريق بين كردي وعربي وتركماني.

المتطرف: لماذا إذن يدعم الغرب المسيحي، ومعه الروس، هذا النظام، ويمدونه بأسباب البقاء، بينما لم يفعلوا ذلك مع النظام التونسي أو المصري أو الليبي؟ أليس ذلك من أجل خاطر إسرائيل، وخوفا من ثورتنا لأن من قام بها هم من السنة ضد العلويين؟

المعتدل: الوضع معقد قليلا، والغرب لديه بعض الأمل في تجاوب النظام، وهم متعبون من الحروب، وسيتضح لهم أمر هذا النظام سريعا، ويدعمون ثورتنا، والروس لديهم موقف مناكفة مع الأميركان، وليست القصة قصة منطلق طائفي.

المتطرف يقطع حديثه فجأة بسبب قذيفة أطلقتها الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، مزقت أشلاء محاوره المعتدل، ليقوم هو بتجميع أشلاء رفيقه الثوري المعتدل، ثم يلقي خطبة جهادية سنية عصماء على رفاقه، ويداه ساخنتان من دماء رفيقه القتيل.

هذا المشهد المتخيل، ربما يلقي بعض الضوء على خطورة هذه المقاربة الدولية السطحية والأنانية، في إضعاف الاعتدال السني السوري في حالة الكف عن دعم الثورة السورية أسوة بما جرى في تونس ومصر وليبيا.

كما قال شوقي:

أحرام على بلابله الدوح

حلال للطير من كل جنس

يجب النظر بعيدا في المستقبل، والاستثمار في الاعتدال السني وليس في هذه الحيل المكشوفة.

إذا أردنا مستقبلا هادئا، في هذه المنطقة، فيجب الاستثمار في الاعتدال السني، وتنميته، وإكساب المعتدل السني حجة ومنطقا أمام رفيقه المتطرف السني، ليقول له لاحقا: انظر، ألا ترى كيف هبت أميركا والغرب «المسيحي» ليدعم مطالبنا الإنسانية المحقة، القصة قصة أخلاقية وإنسانية يا صديقي، وليست حربا صليبية، بدعم من الطوائف الكارهة لنا كما تتوهم.

النظر أبعد من مواضع أقدامنا هو المطلوب الآن.

من هنا، فإن بعض الأصوات التي خرجت مؤخرا في أميركا، قد تكون مؤشرا إلى بداية اليقظة من هذه الغفلة التي تسير فيها إدارة أوباما المترددة.

قبل أيام، كتب السيناتور الأميركي جوزيف ليبرمان، مقالا لخص فيه رؤيته للأزمة السورية، بعد زيارة قام بها للمنطقة. واستعرض فيها جانبا من مرارة الناس من موقف إدارة أوباما الرخو تجاه الثورة السورية.

مما قاله في مقاله اللافت هذا، شارحا وجوب التدخل الأميركي الفاعل في الأزمة السورية: «سيكون الطريق صعبا، فهناك الكثير من العقبات التي تحول دون توفير المساعدة لمقاتلي المعسكر المعارض داخل بلادهم. ومن المؤكد أن سوريا ستواجه الكثير من المشكلات السياسية والاقتصادية خلال حقبة ما بعد الأسد. وسيتضمن أي تدخل مخاطر، لكن من الواضح أنه من دون تدخل أكبر، سوف يقودنا المسار الحالي إلى خطر أكبر متمثل في كارثة إنسانية واستراتيجية تتعلق بقيمنا الأخلاقية ومصالح أمننا القومي. ويمكن تفادي هذه النتيجة من خلال تغيير ميزان القوى العسكري داخل سوريا سريعا، ويعتمد هذا بالأساس على القيادة الأميركية».

وقبله كان السيناتور الأميركي الآخر جون ماكين، قد تحدث عن أن موقف الإدارة الحالية المتخاذل تجاه الثورة السورية، وتجاه المأساة الإنسانية في سوريا التي ترتكب فيها المجازر من قبل قوات النظام - يعتبر «حلقة مخزية» في التاريخ الأميركي.

هل يعتبر هذا تحولا في الموقف الأميركي؟ لا ندري، فهذه مواقف تعبر عن أشخاص خارج الإدارة، لكن أهميتها في تنبيه الرأي الأميركي إلى خطورة هذه السياسة الضعيفة المتخذة تجاه الأزمة السورية.

بكلام وجيز: عدم دعم الثورة السورية، واحتضانها وقيادتها، هو الذي سيقود إلى الكارثة الكبرى في المنطقة، وليس العكس، وترك الأمور للزمن سيزيدها تعقيدا وخطورة وليس العكس. إن كان ثمة من يرى أو يسمع ما نراه ونسمعه..

[email protected]