هل هناك خلاف سعودي ـ تركي؟!

TT

نشرت د. مليحة التونشيك، من جامعة الشرق الأوسط التقنية في أنقرة، مقالا على موقع شؤون خارجية الأميركي (فورن أفيرز) تناول العلاقات السعودية - التركية، حيث انتهت الكاتبة إلى خلاصة مؤداها أنه على الرغم من التقارب بين البلدين خلال السنوات الماضية، فإن التقارب ذاته يعاني من عقبات عميقة، واختلاف في الرؤية، لا سيما حول الملف السوري. المقال الذي نشر بعنوان «العداقة المريرة: التحالف غير الوثيق بين السعودية وتركيا»، يسرد الخلفية التاريخية لمسيرة التقارب، وترصد فيه الكاتبة مواقف الدولتين في مواجهة «الربيع العربي»، حيث صورت تركيا بوصفها الداعم والمشجع على التغييرات التي عمت المنطقة، بينما بدت السعودية رافضة أو معادية لتلك التحولات.

ما يلاحظ على الكاتبة أنها طرحت فرضية مؤداها أن العلاقات السعودية - التركية كانت مبنية على الشك وعدم الثقة المتبادل في الماضي، ثم توصلت إلى أن الخلاف الآيديولوجي والثقافي والمصلحي يقف حاجزا أمام تحقيق التقارب بينهما. هذا الطرح بحد ذاته غير مدعم بالأدلة، ولا يتوافق مع بعض الوقائع التاريخية. الكاتبة محقة في أن التقارب ما يزال دون المأمول - أو المتوقع - نظرا إلى حجم المصالح الممكن تحقيقها، ولكن المقدمات التي تبني عليها ذلك الحكم غير دقيقة.

دعونا نعدْ إلى بعض الوقائع التاريخية، فقد كانت السعودية من بين أول الدول العربية التي فتحت أبوابها وأسواقها لتركيا في وقت كان فيه المد الناصري القومي، والبعثي بعد ذلك، يحمّلان تركيا المظلومية العربية قبل الاستقلال، وفي حين وقعت كل من السعودية وتركيا مذكرة تعاون في 1962، واتفاقية اقتصادية في 1974، لم تكن بين تركيا ودول مثل سوريا والعراق، وحتى مصر، أي علاقات تذكر، بل لطالما انتقدت تلك الدول الموقف التركي، لا سيما علاقاتها مع إسرائيل أو ارتباطها بحلف الناتو. أيضا، أعطت السعودية الشركات التركية - لا سيما في قطاع البناء - نصيبا وافرا بداية السبعينات مع الطفرة في أسعار النفط، وكانت المنتجات التركية بأنواعها متوفرة في السوق السعودية.

أما على المستوى الإقليمي، فقد كانت السعودية من بين الدول القلائل التي دعمت الموقف التركي في الأزمة القبرصية. ففي زيارة للرئيس التركي الراحل جودت صوناي إلى السعودية عام 1968، حاول الأتراك إقناع نظرائهم السعوديين بضرورة دعم الموقف التركي في وقت كانت فيه بعض الدول العربية «الثورية» مساندة لقبرص، وافقت السعودية على مساندة تركيا، ولهذا عندما قامت أنقرة بغزو قبرص بعد انقلاب 1974، وجدت نفسها تحت ضغوط غربية هائلة، وبنهاية عام 1979 شهدت تركيا أكبر أزمة اقتصادية منذ الثلاثينات، حيث عجزت عن تسديد الديون الخارجية، ولذلك لجأت، كما يقول ويليام كوانت (1981)، إلى الاستدانة من السعوديين لسببين: أولهما، أن المعونة السعودية لم تكن مرتبطة بأية أجندة سياسية عدا الملف الفلسطيني. وثانيا، أن تركيا كان بإمكانها أن تتصرف بالمعونة من دون شروط اقتصادية أجنبية تجبرها على مشاريع معينة تخدم شركات الدائنين.

حتى في مرحلة الثمانينات والتسعينات كانت العلاقات السعودية - التركية جيدة، بحيث لعبت تركيا دورا مهما كوسيط خلال الحرب العراقية - الإيرانية، وانحازت إلى جانب القوات الدولية في حرب تحرير الكويت. بيد أن تركيا ذاتها دخلت منذ منتصف التسعينات في حالة عزلة داخلية نتيجة الصراع ما بين الكماليين والإسلاميين، ولم تبدأ تركيا في تنشيط دورها الإقليمي إلا بعد أن انتخب حزب العدالة والتنمية لفترة ثانية، وحتى الالتفات إلى المنطقة ظل محصورا في هيئة تصريحات ساخنة لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، ومبادرات دبلوماسية شملت كلا من سوريا وإيران، وكذلك دول الخليج.

هذا الاستعراض التاريخي ضروري، لأنه يعكس لنا أن ليس ثمة أي نزاع أو خلاف حيوي بين الطرفين، فالسعودية - مثلا - ليست سوريا، حيث هناك خلافات حدودية تاريخية، ونشاط كردي انفصالي كانت تغذيه دمشق في الماضي، وهي ليست إيران التي كانت تدعم ميليشيات يسارية وأصولية مناهضة لأنقرة. أما مسألة أنه لم ينشأ تحالف بين السعودية وتركيا، فقد يكون أمرا إيجابيا، فالعلاقات التي تكون مبنية على الاحترام وتبادل المنافع لا تقود بالضرورة إلى عقد تحالفات، ثم إن نزوع بعض المحللين إلى تضخيم حقيقة العلاقات، أو إعطائها تفسيرات خيالية دون وجود أدلة مقنعة يقود في النهاية إلى خلاصات قائمة على الظنون والتفكير الرغبوي.

لأكثر من عشرة أعوام كانت هناك ومازالت كتابات كثيرة تنشر كل يوم تبشر بصعود «عثمانية جديدة»، وأخرى تجادل بأن الأتراك يريدون الاستئثار بالورقة السنية لمواجهة إيران وحلفائها، وعلى الجانب الآخر هناك أصوات حذرت من التقارب السوري - التركي، والإيراني - التركي، وذهب البعض إلى أن السعودية تشعر بالقلق من تزايد النفوذ التركي.

الحقيقة أن كل تلك التحليلات لم تعتمد على أدلة أو حوارات أساسية مع صناع القرار، ولهذا تجيء قاصرة وغير مقنعة. لا شك أن هناك صعوبة لدى الباحثين في الحصول على المعلومات، وقد يستغرق المرء سنوات قبل أن يحظى بثقة مصادره. بيد أن اللجوء للخيال، والافتراض في الفراغ، لا يخدم الفهم الصحيح. لو راجعت عشرات المقالات التي نشرت في مجلات سياسية مرموقة مثل «الفورن أفيرز»، و«الفورن بولسي»، أو حتى «الإيكونومست» لوجدت أن كثيرا من الكتاب أطلقوا لخيالهم العنان في الكتابة عن تحولات «الربيع العربي»، والآثار المستقبلية له على التوازن الإقليمي. هي حالة تذكرنا بأيام الحرب الباردة حين طبعت مئات الكتب، ونشرت آلاف المقالات عن «هرمجدون» مقبلة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أو عن «خطر الصعود الياباني»، أو تلك التي تتحدث عن «حرب النجوم» بين القوى العظمى. في النهاية كان جزء من ذلك الطرح خيالات مبنية على الظنون.

بإزاء المرحلة الراهنة تتكرر ذات الممارسة، حيث ينسج الكتاب والمعلقون وقائع غير موجودة، ويبالغون في قراءة أي لقاء سياسي هنا، أو إيماءة لمسؤول هناك. بيد أن الحوادث الفردية تعزز القاعدة أكثر مما تغيرها، وهذا ما ينطبق على حالة اللااستقرار التي ما زالت تمر بها المنطقة. فنحن لم نشهد حتى الآن تغييرا يذكر في سياسات دول «الربيع العربي»، فتونس غارقة في وضعها الداخلي، وليبيا ربما تغيب عن المشهد لأعوام مقبلة، واليمن كذلك. أما مصر فما زالت تمر بمخاض عسير، ولكن النتائج الأولية لا تشير إلى أننا بصدد انقلاب في العلاقات بين مصر وجيرانها حتى مع وصول «الإخوان» إلى السلطة، قد تتغير الظروف بالطبع ولكن المؤشرات الراهنة تؤيد ذلك. حادثة «الجيزاوي»، على سبيل المثال، أثبتت أن قطع العلاقات السعودية - المصرية صعب حتى في مرحلة «الثورة»، وموقف الأزهر وعدد من دعاة «الإخوان» الرافض لبناء «حسينيات» يثبت أن فرضية قيام تحالف مصري - إيراني ليست ممكنة في الظرف الراهن.

ولكن ماذا عن الأزمة السورية؟ المتابع للمحادثات السعودية - التركية يدرك أن ثمة توافقا كبيرا بينهما على ضرورة رحيل الرئيس بشار الأسد، قد تكون تصريحات أحد الطرفين أكثر سخونة في بعض المناسبات، ولكن من الناحية العملية لا تجد فرقا كبيرا في التعاطي مع الأزمة. أما حكاية أن كل طرف يريد من سوريا ما لا يريده الآخر، فهذا طرح لا دليل عليه، هناك فروقات بالطبع، ولكننا لم نشهد أن السعودية أو تركيا دعمتا فريقا معينا للحكم ضد الآخر. هناك بالطبع حضور إخواني طاغ في معارضة الخارج، ولكن ذلك ينسجم مع حقيقة أن «الإخوان» هم أكبر حزب منظم للسوريين في الخارج، وليس من الحكمة إسقاطه من حسابات المرحلة المقبلة.

تنمية العلاقات السعودية - التركية مهمة لأن حجم ما بينهما من التوافق أكثر من الخلاف، ولكن كأي علاقات بين بلدين فإن لغة المصالح هي المعيار الطبيعي لتعزيز التقارب. هناك بالطبع فروقات طبيعية بينهما، ولكن أن توصف العلاقة بـ«العداقة» فذلك أمر مبالغ فيه.