شباب سوريا!

TT

يواجه شباب سوريا اليوم أوضاعا لا مثيل لمأساويتها ومخاطرها، ندر أن واجهها الشباب في أي بلد آخر، عربيا كان أو أجنبيا، حتى إنه يكفي أن تكون اليوم شابا سوريا حتى تكون متهما، وبالتالي مطاردا أو ملاحقا، ومستهدفا بالاعتقال والتعذيب حتى الموت أو بإطلاق النار عليك. واللافت أن من يعادي الشباب لمجرد أنهم شباب ويعرضهم لقمع لا يرحم نظام كثيرا ما فاخر بأن رئيسه شاب، وبأنه سيفتح بعقليته الشابة صفحة جديدة في تاريخ سوريا الشعب والوطن، وسيجدد المجتمع والدولة!

ليس من المبالغة القول إن شباب سوريا، الذين كان النظام يقول إنهم مناط الأمل ومحط الرجاء، وكان يمتدحهم في خطبه وشعاراته، يتعرضون لحرب منظمة تستخدم فيها أسلحة خفيفة ومتوسطة وثقيلة أودت بحياة عشرات الآلاف منهم حتى الآن، وزجت بخيرتهم في أقبية وسجون وملاعب رياضية ومستشفيات ومستودعات ومعسكرات ومنازل مستولى عليها أو مستأجرة، بينما فاق عدد جرحاهم عدد جرحى الجيوش العربية في حروبها مع إسرائيل، وربا عدد المفقودين منهم على سبعين ألفا، وعدد الملاحقين الذين يطاردهم الأمن من مكان لآخر على خمسين ألفا. هكذا، عليك أن تحترس كثيرا إن كنت شابا في سوريا اليوم، لأنك ستعتبر عدوا فعليا أو محتملا للنظام، وستجد نفسك في مواجهة قوى تخوض حربا ضدك. يكفي أن تكون شابا حتى تعتبر مشبوها وفي الطرف المعادي، وأن تصير هدفا.

والمأساة أن مجتمع سوريا شاب، تبلغ نسبة من هم دون سن الرابعة والثلاثين 79 في المائة من مواطنيه، وأن معظم هؤلاء كانوا قبل انتفاضتهم من دون أي دور عام أو شأن، فهم إما عاطلون عن العمل (70 في المائة من إجمالي عدد العاطلين) أو مهاجرون أو مغتربون أو عاملون بأجور متدنية وأعمال يدوية وغير تخصصية. يفسر هذا الوضع المزري، فضلا عن حرمانهم من حقوقهم وحرياتهم، إسهامهم في إطلاق الانتفاضة وتحويلها إلى حراك دائم، وتحملهم مسؤولية قيادتها، وإقدامهم وشجاعتهم، ورغبتهم في تقديم كل ما هو ضروري من تضحيات لانتصارها، بعد أن أخرجتهم ثورتهم من التهميش والإذلال ووضعتهم في قلب حدث هو واحد من أعظم أحداث التاريخ العربي القديم والحديث، تطلب قيامه قبولهم رهانات فيها موتهم أو حياتهم، التي صارت بالثورة مركز السياسة في سوريا، وملأت مجمل الحقل العام، وحددت تخومه الجديدة، وأدخلت إليه آليات عمل مغايرة لما هو مألوف فيه، فصار القضاء عليهم، أي قتلهم والإجهاز على وجودهم، هدف سياسة مقابلة أتت من فوق، قررت أنه لا سبيل إلى إخراجهم من الحياة السياسية بغير إخراجهم من الحياة، حتى ليمكن القول إن سوريا تشهد منذ قرابة خمسة عشر شهرا معركة حربية يخوضها ضد شبابها نظام تقادم وتهالك وصار من الماضي، مع أنه لا ذنب لهؤلاء غير البحث بروح مدنية ومطالب شرعية عن موقع لهم تحت شمس الحرية، التي قرروا نيلها أو الهلاك دونها، حسب ما كان يخبرنا معظم من كنا نلتقيهم من الشباب قبل الانتفاضة، فقد صادفنا ذات مساء في أحد مطاعم دمشق خريجين جامعيين قيض لنا أن نتبادل الحديث معهم، وحين سألناهم عما يريدونه، ردوا معاتبين: «كيف تحملتم نيفا وأربعين عاما من الإذلال تمكنتم خلالها من العيش من دون حرية. نحن الشباب إما أن نكون أحرارا أو نموت، وسنرفض ما حيينا الخيار الذي ارتضيتموه لأنفسكم: مداراة الحاكم والسكوت على الظلم من أجل سلامتكم الشخصية وتمضية حياتكم اليومية». حذرناهم: «لكنكم غير مسيسين، والعبء ثقيل»، فأجاب كبيرهم وكان طبيبا: «اللعنة على السياسة، نحن نخوض معركة وجود وليس معركة سياسة. ثم إننا إذا تطلب الأمر سنتعلم السياسة، ولكن ليس على طريقتكم وطريقة أحزابكم».

زج الشباب السوري بنفسه في معركة لم يكن يخطر ببال أحد قبل 15 مارس (آذار) من عام 2011 أنه يمتلك هذا القدر المذهل من روح الفداء التي وظفها فيها، وأنه على استعداد للموت من أجل الحرية، التي يرى فيها سبيله إلى العدالة والمساواة والكرامة. قاتل الشباب من جميع الاتجاهات والتيارات والانتماءات الدينية والآيديولوجية بهذا البرنامج البسيط طيلة الفترة الماضية، من دون أن يعقدوا الأمور أو يضيعوا أنفسهم في متاهات الكلامولوجيا. لقد رفعوا راية الحرية ومضوا إلى ميادين الثورة والشهادة، فأنجزوا معجزتين لم يكن يخطر ببال أي سوري أن وقوع أي منهما ممكن: ثورة مجتمعية/ شعبية لا سابقة ولا مثيل لها في سوريا الماضي والحاضر، وعرفوا حتى الآن كيف يديمونها ويحولون دون سحقها على يد قوات متفوقة تفوقا عسكريا وتنظيميا ساحقا عليهم، وكيف يمنعون النظام من كسر موازين القوى القائمة على الأرض لصالحه، وبالتالي من إطفاء الانتفاضة. حدث الأمر الأول بفضل ابتكار أشكال نضال مبدعة ومفاجئة، عبأت قطاعات واسعة جدا من الشعب وراء هدف الحرية، وحدث الثاني لأن الشباب لم يتخلوا عن مطلبهم، الحرية والعدالة والكرامة، ولم يضيعوا وقتهم في حديث أحزاب وقوى المعارضة عن النظام البديل، وأشكاله وأنماطه وقواه وكيف يقوم ويقعد، وهل هو ديمقراطي مدني أم مدني ديمقراطي، أم مدني وديمقراطي، أم ديمقراطي ومدني.. إلخ. تجاهل الشباب هذا الحديث، الذي لن تكون له أي قيمة إذا ما نجح النظام في كسر شوكة الثورة، وذكروا من يهمهم الأمر بأن مهمة المعارضة تكمن في تحصين النضال الشعبي، ومنع تحول موازين القوى ضده عبر وضع برامج وخطط عملية وجداول زمنية للمراحل التي سيمر، أو يمكن أن يمر النضال بها، قبل سقوط النظام وبلوغ النظام الديمقراطي البديل.

هذا الشباب الرائع يتعرض للظلم من جهتين: السلطة التي تستهدفه بالقمع والقتل الجسدي، ومن يعملون لانتزاع دوره والالتفاف على أهدافه وتضحياته، بالمصادرة والتهميش حينا، والمزايدات والمغامرات حينا آخر.

لكن ثورة الشباب مستمرة، ومستمرة معها قدرته على استقطاب قطاعات المجتمع الأهلي وكسبها للحرية، ومستمر أيضا تصميمهم على النصر ورغبتهم في الخلاص من الاستبداد، وفي فتح طرق جديدة أمام الثورة وزج قوى جديدة في معركتها السلمية، حتى ليمكن القول إن سوريا لم تكن يوما أقرب إلى نيل حريتها منها الآن، بفضل نهر الدماء التي سفحها الشباب على دربها، ووطنيتهم وروحهم المجتمعية الجامعة، ووحدة إرادتهم وتعاليهم على الطائفية وأمراض المجتمع الأخرى، وصبرهم على الموت والعذاب، وهم يمضون شامخي الرؤوس نحو سوريا الحرة!

رد الشباب الروح إلى وطنهم، الذي يجب أن يضع مقدراته بين أيديهم، بعد أن ضحوا بالغالي والنفيس في سبيل حريته، وأثبتوا أنهم جديرون به، وأنه سيكون بهم ومعهم أحسن حالا مما كان في أي يوم مضى من تاريخه القديم والحديث!

هنيئا لسوريا بشبابها، الذين يضعونها فوق أي حساب أو اعتبار!