لماذا ينسى الإنسان؟

TT

فوجئ مدير مطعم لبناني في مدينة كان الفرنسية، بوجود ملف على إحدى الطاولات كتب عليه «سري للغاية»، كان أحد أفراد مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي FBI قد نسيه هناك، فسارع مدير المطعم إلى فتحه ليرى ما بداخله فكانت المفاجأة أنه وجد تفاصيل زيارة الرئيس الأميركي ومشاركته في قمة مجموعة العشرين، بدءا من لحظة وصوله إلى المطار وحتى مغادرته، بما في ذلك الفندق الذي سيسكن فيه، وتفاصيل مخطط الحماية والطرق التي سيسلكها موكب الرئيس! فأسقط في يد المدير الذي هرع يبحث عن هاتف الـFBI فوجده في الإنترنت. وما إن اتصل بهم وتلا عليهم الصفحة الأولى من الملف حتى أبلغوه بعدم التحرك لحين وصول أفراد الـFBI، وبالفعل تسلموا الملف منه وشكروه، ثم منحوه وسام شرف تقديرا لأمانته.

هذه ليست لقطة في فيلم، وإنما قصة حقيقة وقعت بالفعل، وقرأتها في صحيفة «لافيغارو» الفرنسية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ينسى الإنسان أمرا مهما كهذا، وغيرها من الأمور البسيطة؟ علماء النفس بحثوا في هذه المسألة فوجدوا أن الاعتقاد الشائع بأن التقدم في العمر يدفع الإنسان نحو النسيان، هو أمر لا تقره الدراسات العلمية، فقد أظهر علماء النفس أن أكثر ما يُنسي المرء هو التأثير السلبي لتعلم المواد الجديدة أو ما يسمى بـRetroactive Inhibition (أي الكف الرجعي). أي أن المعلومات الجديدة تمسح تدريجيا خبراتنا ومعلوماتنا السابقة.

وقد أجريت تجربة «للمقارنة بين مقدار التذكر بعد فترة راحة (نوم) لا يقوم فيها الفرد بنشاط ملحوظ، وبين مقدار التذكر بعد فترة يقضيها الفرد في نشاطه اليومي العادي». «وكلف المتطوعون في الدراسة بحفظ مجموعة من المقاطع عديمة المعنى، ثم طلب منهم النوم مباشرة عقب الانتهاء من الحفظ، ثم اختبر مدى تذكرهم للمقاطع عقب فترات مختلفة من النوم. بعدها كلف المشاركون بحفظ مجموعة أخرى عديمة المعنى وتم اختبار مقدرتهم على التذكر بعد فترات من النشاط اليومي، ثم توصل العلماء إلى أن المقاطع التي استطاع المشاركون تذكرها عقب فترات النوم يزيد كثيرا على عدد المقاطع التي استطاعوا تذكرها عقب فترات اليقظة»، وذلك حسبما ذكر د. محمد عثمان نجاتي في كتابه «علم النفس والحياة»، وهو أمر تؤكده دراسات حديثة أيضا.

ليس هذا فحسب، بل تبين للعلماء أن الإنسان الذي يكبت آلامه وأحزانه يلجأ لذلك كحيلة عقلية، من دون قصد أحيانا، لينسى تجاربه الأليمة السابقة. وربما لهذا يقال إن الإنسان سمي كذلك من «النسيان» الذي يميزه.

النسيان نعمة ونقمة، فهو نعمة إذا كان يجلو معه أدران القلب وهمومه، ويجعلنا أكثر تسامحا، وهو نقمة إذا تركناه ينسينا أهم أولوياتنا وأهدافنا في الحياة، فنسير على غير هدى، في حين يتقدم الآخرون ونحن نراوح في مكاننا!

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]