دبلوماسية الرسائل والجثث

TT

لنبدأ بالأمر الأهم.. وهو نجاح أسرانا في زحزحة السجانين الإسرائيليين عن سياساتهم ولو قليلا، فما تم هو إنجاز للأسرى، وثمن متواضع لصمودهم الأسطوري ومكابرتهم الشامخة التي لا نظير لها في التاريخ القديم والحديث، فهذا أقصى ما تستطيعه الأمعاء الخاوية في هذه الجولة من المواجهات الدائمة مع السجانين، فهنيئا لأسرانا هذا الإنجاز.

ولقد تزامنت قضية الأسرى - دون تخطيط مسبق – مع تلقي القيادة الفلسطينية للرسالة الرد، التي سلمها المحامي مولخو والتي لم تنشر تفصيلا، إلا أن تعقيب الناطق الفلسطيني عليها يفصح بأنها ليست ذات شأن، أو أنها لم تأت بجديد يمكن البناء عليه، وبهذه الرسالة الرد يفترض أن يتوقف سعاة البريد عن نقل الرسائل، فليس هكذا تدار الأمور، وليس نتنياهو من يرق قلبه حين نذكره بمسؤولياته المباشرة عن تعثر مسيرة السلام، فمثلما خطط نتنياهو ونفذ سياسة مفاوضات من أجل المفاوضات، فلا غرو أنه يخطط ويحاول أن ينفذ سياسة رسائل من أجل الرسائل، كونه يستطيع الزعم أن الصلة مع الفلسطينيين لم تنقطع، وأن الأمور تسير على نحو إيجابي، خصوصا بعد أن قدم إلى جانب الرسالة الرد مبادرة حسن نية وهي تسليم مائة جثة فلسطينية كي تدفن في مقابر تحترم جثامين الشهداء، وتضع على شواهد أضرحتهم أسماءهم وصورهم وتاريخ ولادتهم واستشهادهم، بعد أن ألغيت آدميتهم عشرات السنين حين لم يكونوا بالنسبة لمحتجزيهم إلا مجرد رفات وأرقام.

عودة مائة جثمان أمر بالغ الأهمية وإن كان سيجدد الحزن على الفراق، إلا أنه سيؤنس قلوب الأمهات الثكالى والزوجات الصابرات والأحبة، الذين حرموا من صحبة الشهيد حيا وحرموا كذلك من أداء واجب الوداع ميتا.

غير أننا ونحن نستقبل جثامين أبنائنا وإخوتنا وأحبائنا، لا نستطيع قبول فكرة أن تسليم الجثامين هو بادرة حسن نية، أو هدية تقدم للفلسطينيين لعلها تغريهم بقبول ما لا يمكن قبوله، ولا إخال الرئيس عباس الذي قيل إن الجثامين هي مبادرة حسن نية من أجله سيقول شكرا لهذه المبادرة، أو أنه سيصدق أن هذا النوع من المبادرات يخفي حقيقة أن ما لنا عند إسرائيل ما يزال كل شيء.. وما أعطتنا إياه إسرائيل هو لا شيء.. سوى أننا سننظم مائة جنازة لمائة شهيد كانوا محتجزين في مقابر كمجرد أرقام بغير وجه حق، ودون مبرر سياسي وأخلاقي، فمع استرداد الجثث يتجدد الحزن، والمصيبة أن إسرائيل تنتظر منا عرفانا بجميل، أو على الأقل أن نقول شكرا.

إن هذا الأسبوع الذي نحن فيه، والذي شهد الرسالة الرد واتفاق الأسرى وإعادة الجثث المائة هو أسبوع الحقيقة المرة، حقيقة تؤشر بوضوح إلى حال السلام بيننا وبين إسرائيل، أو إلى العلاقة السياسية التي تربط طرفي المشروع التاريخي الذي بدأ في أوسلو وانحدر إلى أدنى المستويات في هذا الأسبوع، أسبوع الرسائل والجثث وإنجاز السماح بزيارة الأسرى.

ننظر خلفنا لنرى حطام مشروع سلام، أو الرمق الأخير لأمل محتضر بعد أن كنا قبل سنوات خلت ننظر إلى كم من الأرض سنأخذ في الأيام المقبلة، وكم بقي من الأرض كي نستعيد في الأشهر المقبلة.

مشاعري الشخصية التي اجتاحتني وأنا أراقب المشهد المؤثر الذي تجسد خلال هذا الأسبوع، فيها كثير من الالتباس والفوضى والحزن، فأين وصلنا في الحقيقة؟ وما الذي ينتظرنا غدا أو بعد غد؟ قليل من الفرح بإنجاز الأسرى وكثير من الحزن لأننا نريد ما هو أهم وأعمق، وقليل من الرضا لعودة الجثث وكثير من الحزن لاعتبار عودتهم مكرمة من جانب من احتجزهم طيلة هذه المدة.

إنه أسبوع استثنائي بكل ما للكلمة من معنى، إلا أنه في الوقت ذاته أسبوع الانحدار إلى الدرك الأسفل في مشروع السلام التاريخي الذي سعينا إليه ورجوناه، وها نحن نراه كما لو أنه مقايضة جثث.