ماذا تريد المعارضة التونسية؟

TT

حققت تونس سبقا تاريخيا، من حيث الزمن والأسلوب والنتائج حيث تمكّن الشعب التونسي في أقل من شهر وبأقل ما يمكن من الضحايا وإن كان قتل ضحية واحدة ظُلما وعدوانا يساوي الناس جميعا، تمكّن من إسقاط مستبد من أعتى المستبدين الذين عرفهم الوطن العربي. في الكلمة التي ألقاها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة احتفالية الثورة التونسية بعيدها الأول قال: «أهنئ الشعب التونسي الذي قام بثورته بنفسه ومن أجل نفسه» في هذه الجملة إشادة بكيفية التغيير الذي حصل في تونس ولكنها في الوقت ذاته إشادة لم تتعد مستوى اللفظ؛ فقد جاءت الانتخابات التشريعية الجزائرية التي أُجريت مؤخرا لتُثبّت أركان النظام القديم ولتُبيّن أن الدرس التونسي ما زال مستغلقا عن الفهم عند البعض. وهي في الوقت ذاته رسالة مفتوحة وجهها لنظيره مصطفى عبد الجليل الذي كان يجلس معه على المنصة نفسها. لا شك أنّها رسالة لم تأخذ بعين الاعتبار تعقيدات الوضع الليبي ولم تُفلح في تبرير موقف الجزائر من القضية الليبية.

حققت تونس أيضا نجاحا لافتا حين استطاعت على الرغم من محاولات الالتفاف على الثورة أن تنجز استحقاقا انتخابيا مكّنها من إيجاد مجلس وطني تأسيسي ومن إفراز مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والدخول في مرحلة تحقيق أهداف الثورة.

ولكن يبدو أن تونس بصدد تحقيق سبق تاريخي من نوع آخر ويتمثل هذا السبق التاريخي في تقديم الأنموذج الأسوأ للمعارضة، مع تقديرنا واحترامنا لقلة منها جمعت بين النقد والعمل على أن تكون المصلحة الوطنية هي الإطار الضابط لتفكيرها وتحركها.

معارضة لا تفرق بين حق الاحتجاج وأساليب الاحتجاج، معارضة لا تفرق بين حرية التعبير عن الرأي المخالف والإصرار على إرباك أعمال المجلس التأسيسي بانتهاج أسلوب التهريج والغش في التصويت تحت قبة البرلمان، سابقة لم نسمع بمثيلتها في العالم، معارضة جعلت من كل ممارسة تُسهم في إفشال الحكومة هي عين الممارسة الديمقراطية بل بلغ الأمر مبلغا تجاوز كل الحدود ووصل إلى حد الدعوة جهارا إلى قتل الإسلاميين كما جاء على لسان النقابي عدنان الحاجي، والمعارضة بأحزابها ومنظماتها وهيئاتها لم تحرك ساكنا بل حاولت أن تبحث له عن مبررات واهية وتأويلات لا تستقيم بأي حال من الأحوال.

تطالب المعارضة مثل غيرها من القوى الوطنية الحاكمة بتحقيق التنمية الشاملة والمتوازنة وهو مطلب من المطالب المركزية للثورة وفي الوقت نفسه نجد قوى المعارضة مجندة ومتجنّدة لكل عمل من شأنه أن يعطّل انطلاقة الاقتصاد الوطني. في شهر أبريل (نيسان) - على سبيل المثال - عرفت البلاد بحسب ما أعلنته وزارة الداخلية 468 تجمعا احتجاجيا منها 202 حالة غلق طريق و127 حالة تعطيل للعمل و29 حالة اقتحام مقرات للعمل و33 حالة حجز لوسائل نقل عمومية و17 حالة قطع للماء والكهرباء.

في البداية ظن المواطن أن ذلك من مقتضيات التحول الديمقراطي الانتقالي الذي بطبعه قد يتسبب في الكثير من العثرات والمواقف غير المدروسة، ولكن تأكد له بعد ذلك أن المعارضة تملك قاموسا سياسيا خاصا بها، وضعته على قياسها، في قاموسها الأقلية تأمر والأغلبية تنفذ لأن الأولى تحكم أصالة والثانية تحكم صدفة فقد أوصلها إلى الحكم بزعمهم التعاطف معها وليس الرهان على كفاءتها ونزاهتها، وتعلو أصواتها إلى درجة أن يخيّل للسامع أن انتخاب الأغلبية كان من أجل أن تعمل على تطبيق برنامج الأقلية، في قاموسها كل ما تقوم القوى المعارضة يجب أن يلقى الاهتمام الكامل ترويجا وتحليلا ونقاشا إلى درجة أن بعض الأحداث المُختلقة أصلا وليست فقط المفتعلة كانت مادة للحوار والنقاش في بعض القنوات الإعلامية، في قاموس المعارضة المناضل الذي قضى نحبه تحت آلة التعذيب في منظومة الاستبداد ليس من حقه أن يتمتع بصفة شهيد الوطن والحرية مثل الذي سقط شهيدا إبّان الثورة بشكل مباشر والسجين الذي خرج من زنزانته معاقا ليس بمنزلة جريح الثورة، على الرغم من أن الجلاد واحد فيتعجب بعضهم من الحديث عن إمكان الجبر المادي والمعنوي لمعاناتهم الطويلة.

عندما أصبح الأمر سياسة مُتّبعة ونهجا ابتغوه، أخذ المواطن يتساءل ماذا تريد المعارضة حقيقة؟ وبدأ يتبين له شيئا فشيئا بحكم تواتر الأحداث والمواقف أن المعارضة على الرغم من تشتت قواها وتشرذمها لا تكاد تتكتل حتى تتفرق - ولا ندري كيف يمكن أن يحكم تونس من عجز عن لمّ شمل نفسه وهو لا يزال في المعارضة؟! - فإنها تعمل تحت لافتة واحدة كُتب عليها بالخط العريض جملتان تقول إحداهما «مُحال أن يلتقي الإسلام والحداثة نظريا» وتقول الأخرى «مُحال أن ينجح الإسلاميون في تسيير شؤون المجتمع والدولة عمليا». وعليه يجب أن يكون مرورهم بالسلطة مرورا كارثيا وبذلك ننتهي بحسب زعمهم مع المعادلة التي أرهقتنا ومفادها: «كل التزام حقيقي بقواعد الديمقراطية والانتخابات النزيهة سيؤدي بالضرورة إلى نجاح الإسلاميين» وباتوا يرددون فيما بينهم ذلك هو السبيل الوحيد للحيلولة بينهم وبين السلطة.

غاب عن المعارضة أمران، الأول أنّهم بسياستهم المفضوحة لإفشال الحكومة جعلوا أنفسهم في موقع المسؤولية عن فشلها الذي يتمنونه، والثاني أنهم بعرقلتهم للنهوض بالاقتصاد الوطني سيجدون أنفسهم في مستنقع من المشكلات التي ستجعل مرورهم بالسلطة في حال فوزهم في الانتخابات القادمة أكثر كارثية ولكن يبدو أن إصرارهم على التعامل السلبي مع كل مبادرة حكومية واعتماد سياسة الأرض المحروقة وانتهاج منطق «علّي وعلى أعدائي» تعكس قناعة غير معلنة أن المعركة الانتخابية قد حُسمت قبل أن تبدأ.

إنّه من المؤسف حقا أن تصل المعارضة إلى هذا المستوى من التخبط والعدمية فتُضيّع على نفسها فرصة العمل البنّاء الذي يتأسس على الاعتراض على ما تراه خاطئا والنقد لما تراه ناقصا والتأييد لما تراه مفيدا ولكن الآيديولوجيا حين تتمكن من الإنسان تجعله لا يميّز من الألوان إلاّ اللون الأسود.

سوف لن تفشل الحكومة على الرغم من كل المعوقات إذا ظلت تستمع إلى أصحاب الرأي والفكرة ولن تخسر معركة الانطلاق في التنمية إذا حرصت على أن تكون عادلة وشاملة ولكن من المؤكد أن تونس قد خسرت على الأقل مؤقتا ترسيخ ثقافة المعارضة البنّاءة، المعارضة التي تجعل من المصلحة العليا للبلاد الإطار الموجّه لكل الطموحات الحزبية المشروعة.

* أستاذ في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس