مغزى المهدوية اليوم

TT

قبل عدة أسابيع ألقت السلطات المغربية القبض على دجال يدعي أنه المهدي المنتظر، كما تم الإمساك بباقي عناصر الخلية السرية التي كان الشخص المذكور يوجد على رأسها. وقد تبين أن أفراد جماعته كانوا يطيعون طاعة عمياء ما يصدره «المهدي» من أوامر أخصها ثلاثة. أولها اتخاذ أسماء غير تلك التي يحملون، زعما بأن أسماءهم الأصلية مدنسة فلا يجوز الاستمرار في حملها وقد انتسبوا إلى التنظيم. والأمر الثاني أن يقدموا على بيع كل ما لديهم من ممتلكات وأن يتبرعوا بها للتنظيم السري الذي يربطهم بالرئيس المقدس، فهو المهدي المخلص أو المهدي المنتظر. والأمر الثالث لا يخلو من غرابة وطرافة معا، وهو وجوب التماس الإذن في المعاشرة الزوجية من الرئيس المقدس.

لا شك أن الحادثة كلها (حيثيات ومضامين) تسترعي الانتباه وتحمل على طرح العديد من الأسئلة، والواقع أن الشأن كان كذلك بالنسبة للصحافة في المغرب، وللصحافة المكتوبة على وجه الخصوص. ما نعلمه، حتى الآن هو أن رجال الأمن في المغرب قد استكملوا التحريات المطلوبة في مثل هذه الأحوال وأن القضية توجد حاليا بين يدي العدالة. وما يحملنا اليوم على الرجوع إلى الخبر وإلى القضية برمتها (قضية المهدوية وادعاء شخص أنه المهدي المنتظر الذي سيأتي ليخلص الأرض من الشرور والآثام وليملأها عدلا كما ملئت جورا...) هو الدلالات التي يحملها ادعاء المهدوية هذا، في هذه اللحظة التاريخية التي نعيشها وفي زمن يبدو أنه أبعد ما يكون عن تصديق ترهات مغامر من صنف أكاذيب الشخص المذكور.

والحق أنه لا ينبغي البتة الاستخفاف بدعاوى مماثلة فهي، من جهة أولى ليست ادعاء منعزلا بل نحن قد سمعنا في السنوات القليلة الماضية أشياء من هذا القبيل بل ولا نعدم الآن سماع أخبار مماثلة في هذه المنطقة أو تلك من العالم. ومن جهة ثانية، وهذا هو وجه الخطورة الأكبر، فإن الخدعة قد وجدت صدى واستجابة لدى أشخاص ربما كان عددهم صغيرا بيد أن الحكمة تقتضي عدم استصغار شأنهم فرب زمرة قليلة تغدو، بعد زمن يسير، طائفة كثيرة العدد والعدة بل وربما تصير إلى جماعات ذات أعداد هائلة وانتشار مذهل متى قوبلت بالصمت أو التجاهل أو بهما معا.

يتعين الانتباه، في النظر في دعوى المهدوية إجمالا وفي مغزى تكرارها في التاريخ بين الفينة والأخرى، إلى عوامل ثلاثة يتعين أخذها بعين الاعتبار فهي تلقي على طلب الفهم أضواء كاشفة. العامل الأول يتصل بالدين الإسلامي وبالثقافة الإسلامية والقصد بهذا القول وجود أحاديث نبوية مقطوع بصحتها تقضي بفتنة آخر الزمان وظهور المسيح الدجال (=المهدي الكاذب) ثم خروج المنقذ المخلص بعد ذلك سعيا لهداية البشر «فلا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق» - وإذن فهنالك استعداد وترقب من المسلم لقبول الفكرة، ولكن هنالك تقرير، عند المسلم الحسن الاعتقاد أن أمر نهاية الزمان وما يتصل به من أحداث لا يعلمه إلا الله وحده وما كان كذلك فالقول فيه ليس جهلا بالدين بل إنه شرك بالله تعالى. العامل الثاني بشري عام، يشترك فيه المسلم وغير المسلم وهو أن معاناة الظلم والفاقة والبؤس في مختلف تجلياته يخلق لدى المرء تشوفا إلى منقذ، مخلص، وبالتالي فهو مما يسميه فرويد بآليات الدفاع الذاتي التي يكون اللجوء إليها في أحوال العجز. نوع من حلم اليقظة الذي يقوم فيه الشخص العاجز بالانتقام ممن ظلمه فهو يصنع بخياله (السلاح الوحيد الممكن في حالته) صورا من الانتقام ينكل فيها بالخصم ويصيره إلى طور من العجز والاستسلام لقوة تفوقه وتعلو عليه. لذلك حفلت أساطير الشعوب بمئات الحكايات عن العادل الذي يظهر في أحوال الشدة ليحقق العدل ويطيح بالظلم والظالمين. العامل الثالث هو أن تاريخ الإسلام (للتفاعل الذي يقوم، ضرورة، بين العاملين السابق ذكرهما) يمتلئ بذكر أخبار المهدي المنتظر وبأخبار المهدوية. فليس صحيحا، كما يتوهم البعض، أن ذكر المهدي يرتبط بالتشيع ودائرته، فهو مما يستوجبه القول بالإمام المختفي الذي سيظهر ذات يوم (=الرجعة) بل إن تاريخ الإسلام عرف من «المهديين» أصنافا. فقد كان للعباسيين المهدي المنتظر، حين كانوا في موقع المعارضة للأمويين وفي حال المطالبة بالحكم، كما كان عند الأمويين أنفسهم «السفياني» (قياسا على المهدي) وكانت في حقب التاريخ الإسلامي صور مختلفة للمهدي.

ذلك أنه ليس من العسير قيام مغامر يمتلك حدودا دنيا من المعرفة الشرعية، تحركه أطماع خفية في الملك أو الزعامة، ويصادف من البسطاء الذين تحملهم الحمية الدينية من جهة وضعف المعرفة الشرعية أو انعدامها، فضلا عن معاناة العسف والظلم، على التصديق ثم الاندفاع الأعمى وراء المهدي - القائد أو المهدي وقد شهر سيفه وخرج حاملا راية العدل والحق.

وحيث إننا عرضنا للمغرب - اعتبارا لكونه مسرحا جديدا لـ«مهدي» منتظر - فلا بأس من أن نذكر أن المغرب قد عرف دعاوى مهدوية غير قليلة يذكر منها ابن خلدون ما كان سابقا على زمانه. أكبر حركات المهدوية وأكثرها اشتهارا في المغرب وهي حركة محمد ابن تومرت الشهير باسم المهدي (نسبة إلى انتحال صفة المهدي المنتظر)، وابن تومرت هذا قد كثر القول منه وفيه كما قيل في حق أبي حامد الغزالي ولا قياس مع وجود الفارق كما يقول علماء الأصول.

وحيث إن الجمع بينهما قد ورد عفوا فنحن نقول إن ابن تومرت قد ارتحل من قريته، في أقصي منطقة سوس في المغرب، إلى بغداد (طلبا للعلم والحج، كما يذكر الرواة مرورا بالأندلس) وأنه التقي بالغزالي وأخذ عنه. هل استمع إلى أقواله في الباطنية وكشفه عن مناهجهم السيكولوجية في استجلاب الدعاة والأنصار وفي إحكام السيطرة النفسانية على المريدين والأتباع؟ لا يعلم شيء كبير في الموضوع غير أن المعروف هو أن ابن تومرت قد مزج في دعوته بين الأطروحات الأشعرية (كما يتأولها في كتابه: «أعز ما يطلب») وبين التقنيات الشيعية في التخفي والتقية. ثم إنه قد سخر الحمية الدينية وكان سذاجة الخلق من حوله في نشر ودعوته.

والقول في المهدي الموحدي قول ذو شجون، وأيا كان الأمر فإن دولة الموحدين التي كانت حركته المهدوية خلف نشأتها تعد أكبر دولة تمت إقامتها في الإسلام في المغرب. ولا يتسع لي المجال للقول في حركة مهدوية (باءت بالفشل) لا يخلو الحديث عنها من بعد رومانسي - روائي قامت في الأندلس زمان المهدي ابن تومرت وهي الحركة التي قادها علم من أعلام الصوفية في الأندلس هو ابن قسي الشهير بكتابه «خلع النعلين».

عندما تجتمع لتسخير الدين، خدمة لأغراض دنيوية وأطماع سياسية يقودها مغامر داهية، فإن أسباب ظهور المهدي الكاذب تغدو مجتمعة. ماذا تنتظر من خضوع مريد لشيخ الطريقة عندما يسوي بين حاله بين يديه وبين الميت أمام غاسله؟ وما المنتظر من شيخ استطاع أن يدفع مريديه إلى القول: الخطأ في اتباع الشيخ أفضل من الصواب في غيابه؟